في ظل نظام الحكم القائم، انهار الاقتصاد وخسر العاملون بأجر نسبة هائلة من قوّتهم الشرائية، ومن كان منهم يتمتّع بتغطية صحيّة فقدها من دون أمل بالرجعة… لبنان ينزف أبناءه
تحّتل الهجرة رأس لائحة خيارات العاملين بأجر في لبنان. أحوالهم لم تكن يوماً على أفضل ما يرام، إلا أنها لم تكن يوماً بهذا السوء. يمثّل هؤلاء 70.5% من مجموع القوى العاملة (59.4% مستخدم شهري، و11.3% مستخدم أسبوعي، يومي أو على أساس الإنتاج بحسب آخر تقرير صادر عن إدارة الإحصاء المركزي)، وقد أصابتهم أزمة غير مسبوقة تاريخياً، كغيرهم من الأسر المقيمة على الأراضي اللبنانية. إذ باتت القوّة الشرائية لأجور 90% منهم لا تتجاوز 20% عمّا كانت عليه في عام 2018، ثم فقدوا نظم الحماية الصحية وضيّقت البطالة الخناق عليهم بعدما لامست 40%. يجمع الخبراء على أنه في ظل استمرارية حُكم نظام نهب المال العام والخاص القائم، لا يمكن الحؤول دون خسارة النسبة الأكبر من رأس المال البشري للبنان التي ترغب في الهجرة أو هاجرت هرباً من جحيم الأزمة.
ارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل هائل لتضيف فقراً على الفقراء (أرشيف ــ مروان طحطح)
برأي المستشار في قضايا الفقر والتنمية أديب نعمة، فإن الأول من أيار «مناسبة للحديث عن مستوى معيشة نحو 80% من اللبنانيين الغارقين في ظروفٍ صعبة وغالبيّتهم أجراء ومتقاعدون». قبل انفجار الأزمة في عام 2019، كان العاملون بأجر في لبنان يتّسمون بخاصيّة واضحة المعالم: أكثر من نصفهم يعملون بشكل غير نظامي، إذ إن «55% من القوى العاملة كان يعمل بطرق غير قانونية». هم غير نظاميين، بمعنى أن المؤسسات التي يعملون فيها لم تكن تصرّح عنهم للضمان الاجتماعي، أو أنها لم تكن تصرّح عن وجودها أصلاً لأيّ جهة رسمية مثل وزارة المال أو الضمان الاجتماعي. وتبعاً لذلك، لم يكن يحصل هؤلاء العمال على أي نوع من الحماية الاجتماعية، ولا يتمتعون بتعويض أو معاش تقاعدي وليس لديهم إجازات سنوية أو مرضية أو مساعدات اجتماعية متّصلة بالزواج والوفاة والولادة، أو حتى بدل النقل، وسواه من التقديمات والمكاسب العمالية الأخرى، فضلاً عن تمييز بحقّ النساء العاملات. وبحسب مدير مؤسسة البحوث والاستشارات كمال حمدان، فإنه بعد الأزمة صار «العاملون النظاميون هم أيضاً يعانون من انهيار نظم تعويضات نهاية الخدمة في القطاع الخاص ومعاشات التقاعد في القطاع العام، والتقديمات الصحية وغيرها». فبحجّة الانهيار النقدي، تلجأ المؤسّسات الاستشفائية إلى مضاعفة أسعارها مرات عدّة، مقارنة مع ما كانت عليه في 2018. كما أن المؤسسات الضامنة تهاوت الواحدة تلو الأخرى وعلى رأسها «الضمان الاجتماعي ثم تعاونية موظفي الدولة ووزارة الصحة والصناديق العسكرية وصناديق التعاضد وسواها. «هو واقعٌ يجرّد العامل من حقّه بالحماية الصحيّة، وسط دولرة نقدية لأكلاف إنتاج الخدمة، سواء عن حقّ أو عن باطل» يقول حمدان.
لكن لم تكن هذه هي المصيبة الوحيدة التي أصابتهم، على ضخامتها. فالانهيار أطاح أيضاً برواتب كل العاملين بأجر، سواء كانوا نظاميين أم غير نظاميين. يشير حمدان إلى أن «القوة الشرائية لأجور 90% من العاملين بأجر لا تتعدى الـ 20% عمّا كانت عليه في عام 2018». ويضيف نعمة إن هؤلاء «يعانون اليوم من إفقارٍ إضافي»، إذ أتى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبةٍ أعلى من النسب المسجّلة في بنود الاستهلاك الأخرى. بمعنى أوضح «طاول الأمر لقمة عيشهم، ما شكّل عامل إفقارٍ مباشرٍ للناس، وإفقارٍ إضافي للفئات الفقيرة». هنا التمييز حال واقع بين العمالة اللبنانية والعمالة الوافدة، لكن الانهيار لا يميّز بينهما بل يصيب الجميع من الزاوية نفسها. بحسب نعمة، إن العمالة الوافدة تمثّل نحو 20% من سكان لبنان بعدما كانت تتراوح بين 5% و6% بين الأعوام 2005 و2012، أي قبل اندلاع الحرب السورية.
هذا الواقع، يدفع العمال إلى الهروب من جحيم الأزمة. من استطاع إلى الهجرة سبيلاً فقد غادر لبنان، أو يعمل على المغادرة. غالبية إدارات الدولة شهدت استقالات من المراكز التي يشغلها اختصاصيون أو من لديهم خبرة واسعة وشهادات علمية تؤهلهم للحصول على وظيفة في الخارج. هناك مثلٌ واضح على ذلك في وزارة المال أثناء إعداد الموازنة، إذ تبيّن أن بعض الموظفين في مركز المعلوماتية استقالوا وغادروا لبنان، ما ترك إعداد الموازنة عملية صعبة فيها الكثير من الثغَر في استخراج المعلومات وتقييمها، بل حتى تحليلها. والأمر ينطبق على القطاع الخاص الذي لا يدفع أجوراً ملائمة تغطّي كلفة المعيشة في لبنان، فضلاً عن أن هناك فئة هاجرت لا بحثاً عن عمل، وإنما بحثاً عن عمل بدخل معقول وعن أمان اجتماعي أيضاً. العاملون المهرة، وهم جزء أساسي من القوى العاملة بأجر، هم من الفئات الأكثر عرضة لنزف الهجرة. وبفعلها يشهد لبنان نزفاً حاداً على صعيد المتعلمين والكوادر الوسطى والمهنيين، وخصوصاً العاملين في القطاع الصحّي نتيجة ارتفاع الطلب الخارجي على الوظائف في هذا القطاع بعد جائحة «كورونا». كذلك تأتي هجرة الكوادر التعليمية، وهو ما يصفه نعمة بـ«هجرة الفئة المنظّمة التي تضعف الهياكل الأساسية في لبنان، سواء على صعيد أصحاب المهن وكفاءات أو أصحاب الاستثمارات». ويلفت الخبير في قضايا الفقر إلى عودة جزء كبير من العمالة الوافدة إلى أوطانها كالعاملات الأجنبيات في الخدمة المنزلية أو قطاعات أخرى. وهناك نوع ثالث يتعلق بالهجرة غير الشرعية «الآخذة بالازدياد» وفق نعمة.
الصورة قاتمة. يستبعد حمدان أن تكون قوى السلطة الحاكمة وفق نهجٍ يحمي أرباب العمل على حساب العمال، ويركّز الثروات بيد قلّة لا تتجاوز الـ 5% من السكان، من النوع القادر أو حتى الراغب في حلّ المشكلة. الحلول لن تأتي إلا بـ«إجراءاتٍ استثنائية تأخذها حكومة مستقلّة من خارج حرم المنظومة تُمنح مهلة 20 شهراً لتنجز الإصلاحات الضرورية، وفي مقدّمها تغيير النظام الضريبي وجعله تصاعدياً، ومحاسبة كبار المساهمين في المصارف، واسترداد ما يمكن استرداده من كبار المودعين، وجملة من الخطوات الأخرى ذات الطابع الإصلاحي البنيوي ليس على طريقة صندوق النقد الدولي، وإنما كما يتلاءم مع إنتاج عقد اجتماعي جديد في لبنان يحقق العدالة الاجتماعية ويردم الهوّة في تركّز الثروة والدخل، ويصلح ما أفسده نظام الحكم في بنية المؤسسات ومصالحها.