أرقام ووقائع نتابعها اليوم تعيد إلى الأذهان محطات تاريخية تبلور معها شكل عالمنا، ومهّدت لما وصلنا إليه في الظروف الاقتصادية والاجتماعية الراهنة. شكلت الحروب وتفاقم الديون الحكومية والإسراف في طباعة الأموال أبرز الأسباب التي أدت إلى انهيار قيمة العملات عبر محطات تاريخية تمتدّ إلى أكثر من 170 عاماً.
كانت الحرب العالمية الثانية محطّة من المحطات المفصلية في السياسة والاقتصاد العالمي. وُصفت بالكارثية على الصعيد الإنساني والاجتماعي والاقتصادي، لأنها أودت بحياة عشرات الملايين، وأدت إلى تصدعات اجتماعية، وخسائر اقتصادية فادحة دفع ثمنها الاقتصاد العالمي.
الفترة التي أعقبت الحرب، كانت فترة تأسيس النظام الذي يحكم العالم، ومرحلة بناء النظام النقدي الذي أظهرت الأحداث التاريخية والاقتصادية اللاحقة هشاشته. كما شيّدت الدول المنتصرة في الحرب عسكرياً وسياسياً، المؤسسات المالية وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليّين، اللذان يلعبان حتى يومنا هذا دوراً محورياً في الاقتصاد العالمي.
قدّمت الولايات المتحدة للعالم ما رأته آنذاك مناسباً لحجم إنفاقها الداخلي والعسكري ولعلاقاتها التجارية، ونهج الاستهلاك المفرط الذي بدأ يترسّخ منذ ذلك الوقت. كما رسمت إطار النظام النقدي في العالم، في ظل إدارة الرئيس فرانكلين روزفلت الذي تولّى السلطة منذ عام 1933 إلى 1945، وأُعلن عنه خلال مؤتمر بريتن وودز الذي انعقد من الأول وحتى الثاني والعشرين من يوليو في العام 1944.
نقف اليوم على بُعد 81 عاماً من ذلك التاريخ، تاريخ إعلان اتفاقية بريتن وودز التي وقّعتها 44 دولة، حيث كانت الكلمة الأولى والأخيرة فيها للولايات المتحدة الأميركية. تضمّنت البنود الرئيسة للاتفاقية التخلّي عن قاعدة الذهب وربط عملات الدول الموقّعة عليها بالدولار الأميركي، مع اعتماد سعر ثابت للصرف، بهدف توفير استقرار الأسعار وتسهيل التجارة الدولية، وكان الدولار مرتبطاً بالذهب بسعر 35 دولارًا للأوقية، فتحوّلت العملة الخضراء إلى عملة احتياط دولية.
آثار انهيار نظام بريتن وودز
تكبدت الولايات المتحدة نفقات عسكرية ضخمة في حرب فيتنام، أدت إلى ارتفاع التضخم والدين العام الأميركي وتراجع الاستثمارات، ووضعت العالم أمام قرار أميركيّ صادم، أعلنه الرئيس ريتشارد نيكسون في العام 1971، وقضى بوقف ربط الدولار بالذهب، لأن أولويات الإنفاق في الولايات المتحدة تغيرت بظل الحرب، واستنزفت جزءًا كبيراً من مخزوناتها من الذهب، وهو الأمر الذي هدّد بتراجع قيمة الدولار، واضطر الإدارة الأميركية آنذاك إلى طبع دولارات من دون رصيد يغطيها من الذهب.
ومع انهيار نظام بريتن وودز انتقل العالم إلى نظام أسعار الصرف العائمة، إذ يتحدد سعر الصرف وفق قاعدة العرض والطلب، وبقيت هيمنة الدولار مستمرة في ظل القوة العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية للولايات المتحدة.
هذه المقدّمة التاريخية مهمة جداً لنفهم الذي يجري اليوم، فالشراكات الاقتصادية والتجارية التي استمرت لعقود أراد رئيس الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب شطبها عام 2025 في قرار عنونه بـ “يوم تحرير أميركا”. طريقة احتساب الرسوم التي فرضها ترامب على الشركاء التجاريين للولايات المتحدة حول العالم غريبة ولم تتّضح آثارها الكاملة بعد. هناك مفاوضات ومحاولات توقيع اتفاقيات جديدة، على أسس مختلفة، لكن هل فعلاً سترضخ الدول مرّة جديدة لما تريده الولايات المتحدة ولما تظن أنها قادرة مجدّدًا على فرضه على العالم؟
نرى مجدداً مشهد الحروب على اختلاف طبيعتها، وتفاقم الديون العالمية والأميركية بشكل خاصّ، وشبح التضخم الذي لا يفارق المشهد رغم جهود البنوك المركزية لمحاربته وبشراسة، لاسيما بعد أزمة كورونا. فإلى أي حدّ نحن أمام محطة جديدة قد تؤدي إلى انهيار قيمة عملات كبرى؟ أو تغيّر هيمنتها في الأسواق العالمية؟
هل يتغيّر النظام النقدي العالمي؟
تختلف المعادلة اليوم، رغم المقوّمات السياسية والقدرات العسكرية وحجم الإنفاق الدفاعي الضخم الذي تتحلّى به الولايات المتحدة. فقد صهرت دول عدة شبكة علاقات استراتيجية مختلفة، وبرزت خلال السنوات الماضية تحالفات قد تغيّر اللعبة، لكن ذلك يتطلب وقتاً أطول مما يظنّه البعض.
الحرب التجارية التي تشنها الإدارة الأميركية بهدف معالجة الاختلال في الميزان التجاري وإعادة التصنيع إلى أميركا، قد لا تؤدي إلى تحصيل الأموال المرجوّة منها، كما أنها تنعكس على القدرات الإنتاجية للشركات الكبرى وتكاليف التصنيع والعمالة وتأمين سلاسل الإمداد بطرق سلسة وبتكاليف محدودة. وتتخوّف بعض الشركات من نقل مصانع الإنتاج إلى الداخل الأميركي، لما لذلك من انعكاسات على هوامش أرباحها وعلى الميّزات التنافسية لمنتجاتها.
أزمات عدة داخل الولايات المتحدة
تضغط قرارات الإدارة الأميركية المتعلّقة بقانون الهجرة على سوق العمل، لأنها تؤدي إلى فقدان اليد العاملة الرخيصة، وتشير البيانات إلى أنه على الرغم من متانة سوق العمل، تجمّد الشركات قرارات التوظيف الجديدة بسبب الضبابية المهيمنة على آفاق الاقتصاد، والمخاوف من اضطرابات سلاسل التوريد، وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي.
شهدت الولايات المتحدة أيضاً ارتفاعًا ملحوظًا في حالات إفلاس الشركات خلال عامي 2024 و 2025، وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ الأزمة المالية العالمية، بسبب عوامل اقتصادية عدّة.
أما خطر الركود فليس مجرّد عبارة، لقد وصلت توقعات حدوثه في الولايات المتحدة، خلال الأشهر المقبلة، إلى 50 في المئة في بعض القراءات. ويتزايد القلق في ظل السياسات التجارية والرسوم الجمركية، وانعكاساتها على ثقة المستهلكين والنمو الاقتصادي، بالإضافة إلى الضغوط التي يمارسها الرئيس الأميركي على بنك الاحتياطي الفدرالي لخفض أسعار الفائدة.
تؤدي المواجهة الساخنة بين الرئيس دونالد ترامب ورئيس الفدرالي جيروم باول إلى قلق متزايد من موجة تضخمية حادة في الولايات المتحدة قد تنعكس على الأسواق المالية كافة، وقد أدت التوترات الأخيرة في هذا الصّدد إلى دفع عوائد السندات الأميركية طويلة الأجل للارتفاع في ظل التراجعات الملحوظة على الدولار.
هل الدولار في مأزق؟
رغم كل التقلبات، لا يزال الدولار عملة الاحتياط الدولية الأولى، وقد تكون إزاحته عن هذا العرش مسألة صعبة وطويلة الأمد، لكن تبدو مكانة العملة الخضراء في المعاملات التجارية الدولية مهددة مع تسريع دول كثيرة وتيرة الابتعاد عنها. وهنا من المهم الفصل بين مكانة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية حول العالم، وبين دوره كعملة للتبادلات التجارية، وتحديد أسعار السلع الرئيسية، وأسعار الطاقة.
تقدّم احتياطيات البنوك المركزية لنا مؤشرات مهمة عن اتجاه الأمور، فقد أظهر مسح أجرته الرابطة العالمية للذهب أن 43 في المئة من البنوك المركزية العالمية تسعى إلى زيادة احتياطياتها من المعدن الأصفر خلال الإثني عشر شهراً المقبلة، بالمقارنة مع نسبة 29 في المئة في العام السابق، وهو الأمر الذي يمثل أعلى نسبة منذ ثماني سنوات.
يدلّ هذا التوجه على ثقة البنوك في المعدن الثمين كأصل آمن خلال الأزمات وأداة للتحوط من التضخم، وقد واصلت البنوك المركزية شراء أكثر من 1000 طن من الذهب سنويًا على مدى السنوات الثلاث الماضية.
إلى ذلك يُظهر تقرير للبنك المركزي الأوروبي، أن الذهب تجاوز اليورو ليصبح ثاني أكبر أصل احتياطي لدى البنوك المركزية بعد الدولار الأميركي في عام 2024، مدفوعاً بزيادة الطلب من الدول الناشئة والنامية التي تسعى للتحوّط من العقوبات وتقلبات النظام النقدي العالمي. كما أن الأزمات التجارية الراهنة إلى جانب تراجع قيمة الدولار، دفعت العديد من الدول إلى تسريع خطواتها نحو تنويع احتياطاتها النقدية.