منذ أشهر عدّة، بدأ التسويق الجدّي للفكرة، من قبل المصارف واللوبي الإعلامي والسياسي الموالي لها، من خلال نقاشات داخل الغرف المغلقة، و كما أشارت “المدن” في مقالٍ سابق في بداية هذا الشهر. باتت المصارف ترى ضرورة استعمال الذهب في أقرب فرصة، للتعامل مع خسائرها. واستعمال الذهب لا يعني بالضرورة استخدامه لتسديد الودائع، بل ثمّة طروحات “خلّاقة” تشمل الرهن والاستثمار وشراء المنتجات “المركّبة”. وهذا ما يوحي أنّ ثمّة لُعابٌ يسيلُ، وثمّة ألاعيبٌ تُحضّر، للإجهاز على أحد آخر ما تبقّى من أصول قابلة للتسييل في مصرف لبنان، وفي سبيل مخططات لا ترتبط بحقوق المودعين أساساً. وحين تدخل العمليّات الملتبسة دهاليز “الهندسات” وفنون البهلوانيّات الماليّة والمنتجات الاستثماريّة العجيبة، ثمّة ما يدعو للقلق، على ما تقول التجارب السابقة مع مصرف لبنان.
ما كشفته “المدن” سابقًا، لم يعد سرًا اليوم. وتحوّل النقاش التآمري، خلف الجدران، إلى حملات إعلاميّة واضحة المعالم، تسأل بجديّة عن مغزى عدم التصرّف بالذهب، كون ادخاره كان أصلًا من أجل استخدامه في يوم كهذا. وفي هذه الحملات، يختلط الحابل بالنابل، فيزعم البعض أن الذهب تكوّن أساسًا من الأموال الموجودة في المصارف حاليًا. وأنّ استخدامه بكبسة زر، سيسمح للبلاد بتجاوز أزمتها بأعجوبة، ومن دون الاضطرار للمرور بخطّة التعافي الماليّة الشاملة، أو بالتفاهم مع صندوق النقد الدولي. ثقوا بالمصارف، وشرّعوا استخدام الذهب، و”سيمشي الحال”. هكذا تقول الحملة.
وسيم منصوري متحفّظ ومُحق
لعلّ أبرز دليل على جديّة وخطورة هذه الحملات، الآتية من رحم أفكار اللوبي المصرفي، كان تعليقات حاكم المركزي بالإنابة وسيم منصوري، الذي كرّر عدّة مرّات حذره الشديد من –بل وتحفّظه على- هذا النوع من الأفكار. يُذكّر منصوري، في مقابلته اليوم، بتجربة احتياطات العملات الأجنبيّة في مصرف لبنان، التي انخفض حجمها الإجمالي من 33 مليار دولار أميركي في تشرين الأوّل 2019 إلى 8.5 مليار دولار أميركي في صيف العام 2023، عند رحيل رياض سلامة. خلال هذه السنوات، يقول منصوري، خسرنا من دولارات الاحتياطي ما قيمته المرّة ونصف قيمة الذهب الذي كان موجودًا في بدايات الأزمة. هل انحلّت الأزمة؟ كلا.
ما يقوله منصوري هنا يستحق الاهتمام. تشريع استخدام الذهب، بقانون في المجلس النيابي، وفتح باب “البهلوانيّات الماليّة” من بعدها، سيعني تبديد هذا البند من الموجودات، تمامًا كما حصل في حالة احتياطات العملات الأجنبيّة. الإشكاليّة هنا لن تقتصر على خسارة هذا الجانب من الموجودات، بل ستكون خسارة أصل إستراتيجي مهم في ميزانية المصرف المركزي. للتذكير فقط، وبينما كانت معدلات التضخّم العالميّة تأكل من قيمة الدولار الشرائيّة، ارتفعت قيمة الذهب الموجود في مصرف لبنان من 16 مليار دولار أميركي في بدايات الأزمة، إلى نحو 26.39 مليار دولار أميركي اليوم. ومن المرجّح طبعاً أن تستمر قيمة هذا البند بالارتفاع خلال السنوات المقبلة، مع دخول العالم حقبة “تيسير نقدي” ذات فوائد منخفضة.
متى يمكن استخدام الذهب؟
كل ما سبق ذكره، لا يعني أنّ هذا الأصل الإستراتيجي بات مصنّفًا في خانة المقدّسات التي لا يمكن المساس بها. في النهاية، الذهب، كأن أصل آخر، موجود ليُستخدم في ظرفٍ ما. لكنّ حساسيّة هذا الصنف من الموجودات، تفرض عدم التعاطي معها بخفّة. أو بصورة أدق: عدم التعاطي معها كما جرى مع احتياطات العملات الأجنبيّة، أو قبلها: مع ودائع المصارف التي جرى تبديدها ببهلوانيّات ماليّة لا تقل غرابة عن الطروحات المقترحة اليوم لاستخدام الذهب. لذلك، “الحديث عن استعمال الذهب غير مقبول”، كما يقول منصوري.
من الناحية العمليّة، يمكن التفكير بأدوات أو استثمارات ماليّة معيّنة ترتكز إلى الذهب كضمانة أو أصل سائل، في يومٍ من الأيّام. لكنّ ذلك يجب أن يستند أولًا إلى بيئة سياسيّة أكثر شفافيّة، وإلى رؤية ماليّة عامّة إستراتيجيّة وموثوقة، بما يضمن أن تكون عوائد هذا الاستثمار مجدية وطويلة الأجل، لتتلاءم مع حساسيّة المس بأصل مهم كالذهب. ووجهة استخدام هذا الأصل، يجب أن تكون ذات مردود اجتماعي واقتصادي واضح وأكيد، كي لا يتم تبديده سُدى.
هذا الظرف، غير قائم اليوم. واستعمال الذهب، سيكون تمامًا كاستعمال الاحتياطات بين سنتين 2019 و2023: مجرد حرق لموجودات مصرف لبنان.
السؤال الأهم: هل من المنطقي أن نبدأ بالكلام عن حرق الذهب، قبل أن ننجز التدقيق في ميزانيّات القطاع المصرفي، لنعرف قيمة موجوداته الفعليّة؟ وهل من الطبيعي أن تطالب المصارف بذهب المصرف المركزي، قبل أن ننجز التدقيق في مصدر الخسائر الموجودة؟ وإذا كان فعلنا هذا ما تطالب به المصارف، من دون مساءلة أو محاسبة، فهل هناك ما يضمن عدم حرق الذهب، كما أحرق القطاع قبلها أموال المودعين؟
لكل ما سبق ذكره، الحاكم بالإنابة محق في رأيه، بخصوص استعمال الذهب في هذه المرحلة بالذات.
الذهب وملكيّته
من الناحية المحاسبيّة، الذهب موجود ضمن ميزانيّة مصرف لبنان. والزيادات في قيمته كان يتم تسجيلها تقليديًّا –قبل حصول الأزمة- في بنود الأرباح التي تُصفّى لصالح الخزينة. ومن الناحية العمليّة، ليس صحيحاً ما يُشاع، لجهة القول إنّ الذهب جرى تكوينه من أموال الودائع الموجودة حاليًا في المصارف اللبنانيّة. لقد تكوّن الذهب بين عامي 1948 و1971 على مراحل عديدة، من الفوائض التي حققها مصرف لبنان في عمليّاته النقديّة. ولقد تحفّظ لبنان على فكرة استخدام وتبديد هذا الاحتياطي خلال أكثر الفترات النقديّة والماليّة حراجة، وهو ما راكم قيمته على مدى العقود الماضية، في مقابل الانخفاض في قيمة الدولار الشرائيّة بسبب التضخّم.
لا يعني ذلك أنّ الذهب ليس جزءًا من الأصول والاحتياطات التي يديرها مصرف لبنان، والتي يجب النظر إليها كجزء من الملاءة المتبقية للمصرف. لكن من غير العادل، ولا المنطقي، النظر إلى الذهب كمجرّد احتياطي سائل يمكن استخدامه بخفّه لحل الأزمة المصرفيّة، تمامًا كحال احتياطات العملات الأجنبيّة. واستخدام احتياطي العملات الأجنبيّة، لم يعالج المشكلة على أيّ حال، كما أشار منصوري. الأجدى، بدل العودة إلى الأفكار البهلوانيّة، النظر في قانون متكامل لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، بما يعالج الخسائر المتراكمة في القطاع، ويعيد للقطاع انتظامه وعافيته. أمّا مسالة الذهب، فيمكن العودة إليها في ظروف أكثر استقرارًا، وعند وجود رؤى اقتصاديّة يمكن أن يثق بجدواها الشعب اللبناني.