يوميًا، قُرابة الساعة الثامنة والنصف صباحًا، يتجمّع عشرات الأشخاص أمام الأبواب المُغلقة للمصارف اللبنانية، وما هي إلا دقائق حتى يُهرول الجميع إلى داخلها لحجز دورهم عبر سحب بطاقة تحمل رقمًا. وخلال وقت زمني قصير، تُصبح لائحة الإنتظار طويلة جدًا، وتضمّ مئات الأشخاص الذين غالبًا ما تضيق بهم أروقة المصرف، خاصة في مطلع كلّ شهر وبعد أيّام عُطلة مُتكرّرة.
والأصعب من الإنتظار الطويل والمُذلّ لسحب ثلاثمئة دولار أميركي(1)،وهو الحدّ الأقصى المَسموح للسحب بالعملة الأميركيّة من قبل مصارف كانت حتى الأمس القريب مُصنّفة في المراتب الأولى في لبنان، أن تُعلن إدارة المَصرف المَعني أنّ الدولارات المُعدّة لهذا النهار قد نفذت، وأن تطلب من الأشخاص المُنتظرين دورهم منذ الصباح، أن يُغادروا في حال كانت غايتهم السحب من ودائعهم بالدولار!.
وحتى في حال كان الشخص المَعني لا يريد المسّ بوديعته في المصرف، بل يرغب بسحب راتبه الشهري الذي يصله بالدولار عن طريق التحويل إلى المصرف، لا يختلف الوضع المُهين، حيث عليه أن يسحب الجزء اليسير منه، ويُكرّر الأمر دوريًا في كل أسبوع، عبر صُفوف الإنتظار المُهينة. والمسألة ليست أفضل كثيرًا بالنسبة إلى الحسابات بالعملة الوطنيّة، وإن كان سقف السُحوبات بالليرة اللبنانيّة أعلى، باعتبار أنّ صُفوف الإنتظار وإجراءات تقييد السُحوبات مُتشابهة.
أكثر من ذلك، وبعد أن بلغ سعر صرف الدولار في الساعات الماضيةنحو 2400 ليرة للدولار الواحد، فهذا يعني أنّ العملة الوطنيّة فقدت حتى تاريخه أكثر من ثلث قيمتها، وأن المُودعين بالليرة خسروا تلقائيًا أكثر من ثلث أموالهم، وهم يعجزون عن سحبها! فهل من حلّ قريب لهذا الذلّ؟.
بداية لا بُد من الإشارة إلى أنّ الموظّفين في المصارف لا علاقة لهم إطلاقًا بما يحدث، ولا يجب في أيّ حال التعرّض لهم بأيّ نوع من الإهانة أو التعامل الفظّ، حيث أنّهم يُنفّذون حرفيًا أوامر عليا يتلقّونها، مثلهم مثل أيّ موظّف في أيّ قطاع آخر، وهم يتعرّضون لضُغوط مَعنوية ونفسيّة ولتهديدات لفظيّة ولإهانات شخصيّة، من المُودعين الخائفين على جنى عمرهم، علمًا أنّ مُوظّفي المصارف فقدوا بدورهم جزءًا من رواتبهم، ويُواجهون المشاكل نفسها التي تُعاني منها أغلبيّة اللبنانيّين.
حتى أنّ إدارات فروع المصارف ليست هي السبب المُباشر لما حصل، وبالتالي إنّ تحطيم واجهات المصَارف وإغلاق أبوابها، وحرق وتحطيم آلات سحب الأموال، لا يُعيد قرشًا واحدًا لأيّ مُودع، بل يزيد الأمور سوءًا. وعلى الرغم من أنّ عددًا من الأشخاص نجح عن طريق الدعاوى القضائية لدى قُضاة الأمور المُستعجلة في تحصيل أمواله، وآخرين نجحوا في الحُصول على ودائعهم عن طريق إقتحام المصرف بمجموعات كبيرة، وإفتعال الإشكالات والصراخ والشتم، فإنّ هذه الحلول لا يُمكن تعميمها، ولا يجب الثناء عليها إطلاقًا، لأنّه بمجرّد تعميمها يعني أنّ المصارف ستتعرّض للإفلاس سريعًا وستُغلق أبوابها نهائيًا، ولن يحصل أحد عندها على أمواله لا كليًا ولا حتى جزئيًا.
نزف مُستمر…
فالأوضاع الضاغطة على مُختلف المُستويات، وخُصوصًا إنهيار عامل الثقة وتوقّف مُختلف أنواع الإستثمارات، حوّل المصارف إلى مكان يتوجّه إليه الناس لسحب ما تيسّر من فتات للأموال فقط لا غير. وبالتالي، لم تعد أي شركة أو مؤسّسة تحوّل أيّ أموال للمصارف، ولم يعد أيّ ثري، وأيّ لبناني مُتمكّن ماليًا يعمل في الخارج، وحتى أيّ لبناني مُتوسّط أو مُتواضع الدخل، يدّخر ليرة واحدة في المصارف، ما يعني أنّ النزف المالي لهذه الأخيرة صار هو القاعدة!
وبالتالي، إنّ كل الإجراءات القاسية غير عادلة أو مُحقّة. فإذا كان هناك مثلاً وديعة بقيمة مئة ألف دولار أميركي، إنّ تقنين إجراءات السحب إلى حدود 300 دولار أميركي أسبوعيًا، يعني أنّ المُودع يستطيع سحب نحو 16000 دولار فقط سنويًا، ما سيُمكّن المصرف من الإحتفاظ بأكبر قدر مُمكن من الأموال. وقد منعت المصارف فتح حسابات جديدة في هذه المرحلة، حتى لا يتم تحويل المال إليها رقميًا، ثم القيام بسحب 300 دولار من أكثر من حساب في آن واحد.
وخلال المرحلة الأخيرة، جرى أيضًا حصر الخدمات الرقميّة للمُودعين بإمكان التحقّق من المبلغ في المصرف فقط لا غير، من دون القُدرة على تحويل أيّ أموال إلى أيّ جهة أو حتى ما بين الحسابات، إلخ. وأمام هذا الواقع الكارثي، لجأ بعض المُودعين إلى الخيار الأخير المُتاح، والمُتمثّل بإمكان شراء أحد العقارات أوالمنازل، أو سيّارة، إلخ، بواسطة شيكات مصرفيّة، وذلك بعد نيل المُوافقة من المصرف المَعني، وبشرط أن يكون حساب المُودع جاريًا، لأن لا إمكانيّة للتصرّف بالأموال في حال كان الحساب مُجمّدًا، حتى لو طلب المُودع التخلّي عن فوائده المُستحقّة والتي تُعطى له أساسًا بالتقسيط الأسبوعي نفسه(2).
إنقاذ مَطلوب…
وبالتالي إنّ أولى الإجراءات المَطلوبة تتمثّل بإصدار قوانين تُنظّم وتُوحّد التعامل مع الأزمة الماليّة، بحيث تُطبّق كل المصارف سياسة نقديّة مُوحّدة، ويحصل المُودعون على حقّ سحب مُنظّم ومضبوط وفق نسبة مئويّة واحدة تُطبّق على الجميع. فإذا جرى مثلاًإتخاذ قرار بأنّه يحقّ للمُودعين بسحب 10 أو 20% من ودائعهم، يُطبّق هذا القرار على كل الودائع بشكل نسبي.
ولأنّ الطريق نحو أيّ حلّ يبدأ بإستعادة الثقة، يجب أن تُصدر الدولة بالتكافل مع المصارف، تعهّدات واضحة بضمان ودائع الناس، وأن تُحدّد بشكل علني فترات التجميد التعسّفي التي ستلحق بهذه الودائع، وفق جدول زمني واضح. كما على الدولة المُسارعة إلى إصدار القوانين التي تمنع التعامل بالدولار داخل الأراضي اللبنانية، وتحصر إستخدام العملات الأجنبيّة للمُشتريات المُستوردة من الخارج فقط لا غير، كما هي الحال في مُختلف دول العالم! كما عليها إرغام المُودعين المَدعومين سياسيًا،والذين تمكّنوا من تحويل أموالهم إلى الخارج خلال الأزمة الأخيرة، على إعادتها.
ولا حاجة للتذكير في الختام، أنّ إستعادة الثقة المالية يستوجب إستقرارًا سياسيًا داخليا كاملاً، وربّما على الطبقة السياسيّة أن تطلب من أجهزة الإستخبارات الرسميّة، تزويدها بالتقارير التي تُلخّص ما يقوله عنها الناس جميعهم-باستثناء قلّة من الأزلام المُستفيدين والأنصار المُتعصّبين، علّ هذه الطبقة تعي حجم الهُوّة التي صارت بينها وبين الناس، بحيث تبادر الحُكومة المُستقيلة إلى تحمّل المسؤوليّات التي لم تتحمّلها يومًا، وتُبادر القوى السياسيّة إلى وقف مُناكفاتهاوتناتش الحصص الوزاريّة والسُلطويّة، في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة سُقوط أغلبيّة اللبنانيّين تحت خطّ الفقر والعوز!.
(1) يختلف الرقم صُعودًا أو نزولاً بشكل طفيف، تبعُا لكل مصرف، وهو يصل إلى حدود 200 دولار أميركي فقط في بعض المصارف.
(2) في حال كان الحساب بالعملة الأميركيّة، تُعطى نصف الفائدة بالعملة اللبنانيّة على سعر الصرف الرسمي، أي 1510 ليرات للدولار الواحد، مَا يعني السطو بشكل غير قانوني على جزء كبير من الأرباح المُفترضة للمُودع.