عين الجمارك على التهريب عيون الدولة على الإيرادات

مللنا من الكلام “المعلوك” عن دولار جمركي أشبه “بالفزّاعة”، كما مللنا من كل المراوغات التي يمارسونها علينا- باسمنا- وتنتهي الى لا شيء، الى راوح مكانك، الى متاهة لها أوّل وليس لها آخر. وفي الآخر- وليس آخراً- سربوا أن كلمة سرّ صدرت: الحكومة العتيدة أولاً ثم الموازنة تالياً ثم الدولار الجمركي لاحقاً. فهل نحن نتجه في الأيام المقبلة الى ربط الأحزمة لمواجهة مرحلة ما بعد قرار رفع الدولار الجمركي؟ وهل سيكون وقعه – كما ينذروننا – وخيماً؟
في الجمارك دائما حركة. الجمارك لم تقفل أبوابها، عكس كل القطاعات الأخرى. موظفو الجمارك بين مدنيين وعكسريين، وعددهم نحو 2000 شخص، واظبوا على الحضور اليومي. الجمارك اللبنانية تعمل بشكلٍ طبيعي. وعناصر شعبة مكافحة المخدرات في المديرية العامة للجمارك، وعددهم لا يزيد عن 25 شخصاً، يعملون، باللحم الحيّ، مثل الساعة. هؤلاء يضبطون يومياً شحنات مهربة على الحدود. يعتمد الجمارك في لبنان على رسم خدمات يعطيه بعض هامش لتأمين بعض المصاريف، ويؤمن نحو خمسة مليارات ليرة سنوياً، يُمنح منها بعض الإمتيازات الى هؤلاء كبدلات النقل والإنتقال. لذلك يوم أضرب الجميع إستمرت الجمارك تعمل.

ممتاز. لكن، السؤال اليوم ليس عن رسم الخدمات الذي تتقاضاه الجمارك لمصلحتها بل عن ذلك الدولار الجمركي المنتظر الذي يخاف منه المواطنون ويعتبرونه “بعبع” المرحلة المقبلة. فماذا عنه؟

حسابات جمركية

الجمارك اللبنانية هي التي تفهم المعابر كما لا يفهمها كل الآخرين. وهي القادرة اليوم، بجهازها الإداري، على تحديد معدلات الرسوم التي قد تستوفى تحت مسمى الدولار الجمركي المُنتظر بعد إقرار الموازنة. دولار اليوم 1508 ليرات ، كما حدده مصرف لبنان، الذي يُحدد أيضا المعدلات لكل العملات الأخرى أيضا مثل اليورو والين، فتحولها الجمارك الى العملة اللبنانية وتفرضها رسوماً عند الدخول. وفي الموازنة الأخيرة أُنيطت مهام مصرف لبنان في تحديد قيمة الدولار الجمركي بوزير المال، كصلاحية إستثنائية، وهذا ما رُفض. ويقول مصدر مسؤول في الجمارك: “كان الرسم يطلع وينزل وفق هامش بسيط بين 1507 و1520 وقرر المصرف المركزي لاحقا تحديده ثابتاً عند 1508. وحين ارتفع كل شيء، وبدأ البحث عن واردات جديدة فليس أفضل من الدولار الجمركي لذلك. هذا ما حصل بتبسيط شديد.

طُلب من جمارك لبنان تحديد نسبة استيفاء الرسوم إذا حدد الدولار الجمركي بـ 14 ألفا فجاءت الحصيلة عشرة آلاف مليار ليرة سنويا. وطلب منه تحديد نسبة الإستيفاء إذا حدد الرسم بثمانية آلاف فأتت النتيجة خمسة آلاف مليار. وعاد وطلب منه تحديد الرسم الجمركي وفق عشرين ألفا فأتت النتيجة بين 14 و16 الف مليار ليرة. والنتيجة التي خلصت إليها الجمارك أن المبلغ المستوفى في كل الحالات لن يزيد عن 400 مليون دولار.

المواد الغذائية بلا رسوم

63 في المئة من مستوردات لبنان غير مشمولة بالرسوم اما بقية المستوردات فالرسوم مختلفة عليها. المواد الغذائية المستوردة لا رسم جمركياً عليها وهناك واحد في المئة فقط منها سيفرض عليها الرسم الجمركي. لذلك لن يشعر المواطن اللبناني، على عكس كل ما يُشاع، بالعبء الإضافي. ومعلوم ان الرسم الجمركي لن يطبق على المواد المستوردة من الإتحاد الأوروبي والدول العربية لوجود إتفاقيات بذلك بينها وبين لبنان لكنه سيستوفى من البضائع المستوردة من الولايات المتحدة الأميركية وأميركا الجنوبية والشرق الأقصى وتركيا وايران حيث لا اتفاقيات تبادل تجاري بيننا وبينها.

دولتنا تعيسة. يُجمع كل اللبنانيين على ذلك. فهي بدأت تفكر بزيادة ايراداتها من خلال الدولار الجمركي يوم كان الدولار لا يزال ينطلق تحليقاً. حددته في البداية بخمسة آلاف ثم بثمانية آلاف ثم بإثني عشر ألفا ثم بعشرين ألفا. هي تتكلم والدولار يتابع مساره صعوداً. وها قد لامس الدولار اليوم الأربعين ألفا- ينخفض قليلا ليعود ويتابع مساره التصاعدي- وبالتالي إذا كانت الإيرادات ستكون، يوم كان الدولار في السوق السوداء بخمسة وعشرين الفاً والدولار الجمركي كان سيُحدد بعشرين الفاً، 350 مليون دولار، فالإيرادات اليوم لن تزيد عن مئتي مليون دولار إذا حُدد الدولار الجمركي بعشرين ألفا. هم ينهمكون (ويشغلوننا) في أمرٍ ويهملون بقية الأمور والدولار “طالع” وإيرادات الدولار الجمركي الى انخفاض.

وادي التهريب

تُشدد مصادر في الجمارك على وجوب إيجاد حلّ. فالتهريب اليوم على قدم وساق نحو سوريا. هناك تجار سوريون يستوردون ادوات كهربائية وألواح الطاقة الشمسية وكل شيء عبر المرافئ اللبنانية، بدولار جمركي لبناني يعادل 1508 ليرات، ويغادرون بها الى خارج الحدود. هذا طبعا ليس جديداً. من زمان وزمان التهريب كان يتمّ على البغال فكيف الحال اليوم؟ يبتسم “الجمركي” ويقول: “الآن هناك أوتوسترادات وعرب وادي خالد. هناك إختصاصيون في وادي خالد بتسهيل تهريب الأدوات الكهربائية والبرادات والغسالات والدراجات النارية”.

ما لم يقله المصدر الجمركي قاله أحد متابعي هذا الملف “نائب في المنطقة يُسهّل ذلك وقد فتح معملاً للأدوات الكهربائية في وادي خالد ويعمل على بيع الأدوات الى سوريا”.

فلنعد الى الدولار الجمركي. النفط لن يدخل ضمن المواد التي يشملها الدولار الجمركي. 35 في المئة فقط من السلع المستوردة ستتأثر بالدولار الجمركي. وبتفصيل أدق: 35,6 في المئة من السلع لا تستوفى عليها أي رسوم. وهناك 27,3 في المئة من المستوردات نفطية. وهذا يعني، بحسب أرقام الجمارك، أن 63 في المئة من السلع لن تتأثر بالدولار الجمركي. ما دام الأمر كذلك فلماذا كل هذا الذعر من الدولار الجمركي؟ جواب الجمارك اللبنانية أن العصابات تملأ البلاد والكل يريد الإستفادة بشكل أو بآخر وهذا ما حصل مع البنزين، إستمروا حتى الأمس يحدثوننا عن الدعم ويخيفون الناس من رفعه، وتبيّن في النهاية أن رفع الدعم لن يزيد من سعر الصفيحة إلا عشرين الى ثلاثين ألفاً، ويستطرد: “السلع التي نشتريها اليوم يتقاضون ثمنها منا وكأن الدولار الجمركي قد طُبّق”.

هل علينا أن نرضى إذاً بالدولار الجمركي ونقول هذا “نصيبنا” أم علينا أن نخاف ونخاف ونظل نخاف؟ يتحدثون في الجمارك عن “كونتينيرات”- مستوعبات- لأوراق العملة اللبنانية تصل شهريا بعدما كانت تصل، قبل وقت قصير، كل أربعة أو خمسة أشهر. لذا، لم يعد من سبيل سوى رفع الدولار الجمركي لأنه المصدر الوحيد الذي يمكن للدولة تحديد قيمة ما ستجبيه منه ويمكنها حينها ضمان تأمين أجور القطاع العام. المصادر الأخرى، مثل القطاع العقاري على سبيل المثال، قد تعجز الدولة عن التحكم بها وتوقع قيمتها بسبب إمكانية “اللعب” وتخفيض القيمية التخمينية. إيرادات الدخل أيضا. وحدها المستوردات الجمركية، كما الإتصالات، تعبر من خلال وزارة الإتصالات ومديرية الجمارك وبالتالي يمكن تحديد قيمة الجباية من خلالهما بدقة أكثر”.

لكن، أليس التهريب على قدم وساق؟ ألم تسمع الجمارك عن محال في مختلف أنحاء لبنان تبيع الأدوات أقل من غيرها لأن مستورداتها “مهربة”؟ يجيب المصدر الجمركي “تضع الدولة في هامش خطواتها أنه إذا كانت قيمة الجباية مليار دولار والتهريب 200 مليون فسيبقى في صندوقها إيرادات متوقعة قيمتها 800 مليون دولار يمكنها التصرف بها. هكذا تفكر دولتنا”.

قطاع السيارات

أكثر القطاعات التي ستتأثر بالدولار الجمركي هو قطاع السيارات، التي تدفع حاليا، على سبيل المثال لا الحصر، سبعة ملايين ليرة رسم الدولار الجمركي، ستدفع بعد إقراره 120 مليون ليرة (أي أقل من أربعة آلاف دولار). المبلغ بالعملة اللبنانية سيكون كبيراً جداً “يرعب” المواطن اللبناني. ويستطرد المصدر الجمركي بالقول “ما لا يعرفه اللبنانيون أن تجار السيارات يتقاضون هذا الرسم منذ الآن فيزيد “الآدمي” منهم 2000 دولار فريش على سعر السيارة”.

اللجان “تنغل” في وزارة المال بحثاً عن سبل “المحافظة على مداخيل الدولة” أما مداخيل الناس فيمكنها أن تنتظر.

سؤالنا، هل من يعرف شيئا عن عمل المركز الجمركي الآلي الذي يتذمر منه كل مخلصي المعاملات؟ هناك، في الجمارك، لا ينفون أن هذا النظام “عم بيسكّج” حالياً، وهناك خبراء فرنسيون من “أونكتاد” يساعدون بإصلاح أي عطل يحدث. وكل المركز يقوم حالياً على ثلاثة موظفين جدد، حالهم حال طفل ولد للتوّ ورموه في البحر.

وماذا بعد؟ ونحن نسأل عن الدولار الجمركي، فلنسأل عن بدري ضاهر- المدير العام السابق للجمارك – وعن موظفي الجمارك الكبار الذين انتهى بهم الأمر في السجون؟ هناك اثنان من المدراء العامين في الجمارك في السجن واثنان من رؤساء المصالح بالإضافة الى بدري ضاهر. والأخير موجود حالياً عند أمن الدولة في مركز حماية الشخصيات. لديه إنترنت وواتساب ومكتب ويقال أنه قادر حتى على عقد الإجتماعات.

من الدولار الجمركي الى الدولة المنهكة الى الفساد الى الأساسيات الى الضروري والضروري أكثر الى عصابات كل مكان وزمان الى الموازنة… مواضيع تبقى مفتوحة.

مصدرنداء الوطن - نوال نصر
المادة السابقةالبطاقة التمويلية “مجمّدة” لنقص التمويل
المقالة القادمةالمصارف مقفلة “حتى إشعار أمني آخر” والأدوية المدعومة الأكثر تأثّراً