غازي وزني: سعر الصرف مستقرّ… لكن هشّ

نفوذ المصارف قوي جداً جداً لدينا فائض مالي لأننا لا ندفع خدمة الدين

كانت ولاية وزير المال السابق غازي وزني مزدحمة بالاستحقاقات. الحكومة التي كان يرأسها حسان دياب، كان عليها اتخاذ قرار التوقف عن الدفع وإعداد خطّة لإعادة هيكلة الدين العام والتعامل مع توزيع خسائر القطاع المالي… لكنّ نفوذ المصارف وغياب القرار أجهضا الخطّة التي وافق عليها صندوق النقد الدولي. الآن، تتزاحم الأولويات والاستحقاقات أمام حكومة نواف سلام، إذ عليها التعامل مع استحقاقات سياسية مرتبطة بالقرار 1701 ومع إعادة الإعمار، ثم عليها أن تتعامل مع استحقاقات داخلية مثل التعيينات وموازنة 2025، وعليها أن تتعامل أيضاً مع الإفلاس وأزمة المودعين والمصارف… في السابق كان صندوق النقد يرفض تحميل الدولة أيّ خسائر وكان يرفض تقسيط الخسائر في القطاع المصرفي، أما الآن فهو بات مرناً في ما يتعلق بهذا الأمر كما أن حجم الخسائر صار أقلّ. للمصارف نفوذ قوي جداً جداً، على حد تعبير وزني. يقول إن الحاكم السابق رياض سلامة كان يريد علاج السرطان بالوقت، وليس بخطّة. هذا النفوذ إلى جانب غياب القرار السياسي، أدّيا إلى تعطيل خطّة التعافي

برأيك ما العناوين الأساسية في الاقتصاد السياسي والاجتماعي التي يجب أن توضع على الطاولة بعد نهاية الفراغ المؤسساتي في لبنان في رئاسة الجمهورية والحكومة، علماً أن الحديات لم تعد تقتصر على الإفلاس المالي والانهيار النقدي بعد العدوان الصهيوني على لبنان؟

لا يمكن فصل الوضع السياسي الداخلي والإقليمي عن الورشة المطلوبة للمعالجة الاقتصادية. التغييرات التي حصلت في المنطقة توصف بالكبرى وبالمصيرية، وتلقائياً هناك تبعات على لبنان. هذا الترابط السياسي – الأمني – الاقتصادي، أدخل الحكومة الجديدة في مرحلة تأسيسية يمكن القول معها إن هناك تحدّ الأولويات التقليدية مثل أزمة المصارف والودائعِ والمالية العامة، إلى جانب أولويات مستجدّة مثل الانسحاب الإسرائيلي، وتنفيذ القرار 1701، وهذا سينعكس بشكل كبير على الدعم المتوقّع من الدول العربية.

وهناك أيضاً ملف إعادة الإعمار؛ إثر عدوان تموز 2006، كانت قيمة الأضرار المباشرة وغير المباشرة تبلغ 5.3 مليارات دولار منها 2.4 مليار أضرار مباشرة وتعرّضت 127 ألف وحدة سكنية للضرر أو التدمير، وفي حينه كان الوضع المصرفي أفضل وكانت للمواطنين قدرة على الوصول إلى أموالهم في المصارف، وأيضاً العلاقات العربية – اللبنانية، والدولية – اللبنانية كانت أفضل. أما اليوم، فالأضرار المباشرة وغير المباشرة، بتقديري الشخصي، تفوق 12 مليار دولار منها 4 مليارات دولار أضرار مباشرة وتعرّضت أكثر من 250 ألف وحدة سكنية للضرر أو التدمير. لذا، تحدّي إعادة الإعمار كبير جداً ويرتبط بالأمور السياسية الداخلية والإقليمية.

بعد ذلك، تأتي التعيينات، والورشة السياسية، ثم التحدّيات التقليدية التي تتلخّص بإعادة العلاقات مع صندوق النقد الدولي، ومشكلة المودعين والقطاع المصرفي، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عمر الحكومة لن يتجاوز 15 شهراً، وستجري فيها الانتخابات البلدية والنيابية. أتمنى أن تكون الحكومة قادرة على التعامل مع هذا الوضع.

هل يمكن تحديد استحقاقات أكثر وضوحاً بعيداً من السياسة؟

يتمثّل الاستحقاق الأول في موازنة عام 2025. حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قدّمتها ضمن المهل الدستورية، إلا أنه كان أولى بها سحبها لسببين؛ لأنّها لم تعد تتناسب مع الوضع الاقتصادي والاجتماعي المستجدّ بعد الحرب. كما أنه بعد انتخاب رئيس جمهورية لم يعد ممكناً الاعتماد على المادة 85 من الدستور لإصدارها بمرسوم بعيداً عن موافقة الرئيس. لذا على الحكومة الجديدة أن تتقدّم بموازنة تتناسب مع الواقع الجديد.

ثاني استحقاق، هو سندات اليوروبوند، إذ إنه بعد مضي 5 سنوات على التخلف عن السداد، ورغم صدور قرار تمديد المهل من مجلس الوزراء حتى لا يرفع الدائنون دعاوى على لبنان في الخارج، إلا أنّ عقود اليوروبوند تتضمن ما يفيد بأن القرار غير كافٍ لمنع حملة السندات من رفع الدعاوى. صحيح أن القرار أظهر النوايا الحسنة، لكنّ المسألة الأساسية أن رفع الدعاوى يهدف إلى تحسين شروط التفاوض حول الدفع.

لم يرفع الدائنون دعاوى في السنوات الماضية، لأنه في حكومة الرئيس حسان دياب، وقبل اتخاذ قرار التخلف عن الدفع، تواصلت مع المستشارين القانونيين «وايت أند كايس» و«كليري غوثلييب» الذين قدّموا دراسة تشير إلى أن أصول الدولة الخارجية محصّنة وبالتالي يصعب الضغط على الدولة من خلال الحجز على أصولها الخارجية. أما الآن فقد أصبحت جدوى رفع الدعوى أكبر من السابق. ففي حال إعادة الهيكلة، مع الحكومة الجديدة، تصبح لرافعي الدعاوى أولوية على بقية حاملي السندات.

في أيام حكومة الرئيس حسان دياب باشرتم التفاوض مع صندوق النقد الدولي وأُجهض المشروع، ثم في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تكرّرت التجربة التي أسفرت عن توقيع اتفاق على مستوى الموظفين لم يُنفذ، فهل تعتقد بأنه يمكن التوصّل إلى اتفاق نهائي مع الصندوق الآن؟

في السابق واجهنا مشكلة عدم وجود قرار، إذ لم يكن أحد يرغب في تحمّل المسؤولية أمام المودعين. عندما أنجزنا خطّة التعافي، قال ممثلو الصندوق للمصارف واللجان النيابية، إنّ الخطة جيدة وإيجابية وصالحة للتفاوض وأرقامها دقيقة، وإن أرقام «المركزي» ليست موضوعية وأسمع الكلام نفسه للجنة العمل النيابي. هذا في عامي 2020 و2021.

أُجهضت الخطة، وعُلّقت المفاوضات. وعندما قدّمت حكومة ميقاتي نفس الخطة تقريباً، رُفضت الخطّة داخلياً. لكن، لا مخرج لحلّ الأزمة من دون العودة إلى صندوق النقد. بمعزل عن قيمة المليارات الثلاثة المتدنية التي سيقدّمها الصندوق، إنما هو سيفتح أبواب الخارج لناحية الثقة وإعادة المستثمرين. الصندوق هو المدخل لحلّ الأزمة. هذه قناعتي. وما تغيّر اليوم، هو أن الصندوق صارت لديه مرونة في التعاطي مع لبنان، بعكس ما واجهنا أيام حكومة الرئيس دياب.

فمثلاً، عند النقاش في موضوع أصول الدولة (استعمالها لتغطية جزء من الخسائر)، كان الصندوق يرفض ذلك في عام 2020، بعكس رأيه الآن المتمثّل في ضرورة مشاركة الدولة في تحمل الخسائر، كما أن الصندوق بات يوافق على تقسيط تغطية الخسائر في المصارف. ما أوقف التفاوض مع الصندوق في الفترة الماضية، كان توزيع الخسائر. هذا التطوّر في موقف الصندوق يُعدّ خطوة إيجابية. لكن تجب الإشارة إلى أنه بحسب صندوق النقد، كلما زادت مدّة الأزمة، تصبح مدّة الحلّ أطول. سابقاً، كان يمكن الحل خلال 5 سنوات، أما اليوم فلا يمكن الوصول إلى حلّ في مدة زمنية قريبة.

مع ذلك، فإن الأرقام تسهّل المعالجة اليوم. فقبل 5 سنوات كان مجموع الودائع 126 مليار دولار، لكنه انخفض الآن إلى 87 ملياراً. وعند الحلّ، يجب الأخذ في الاعتبار مَن استفاد من الـ40 ملياراً الذائبة، ومن استفاد من تسديد قروض على سعر 1515. أيضاً، في هذه الفترة، أخذت المصارف مؤونات على سندات اليوروبوندز، إذ كانت تسجّلها في الدفاتر بقيمة 11 مليار دولار، بينما اليوم هي أكثر قليلاً من 2 مليار دولار، أي إنها غطّت الفرق، كما أن المصارف تأقلمت مع الأزمة الاقتصادية وباتت منقسمة على نفسها (في الميزانيات) بين «مصرف جيد» و«مصرف سيّئ».

دخلنا في مرحلة جديدة اليوم. وفي حال اتُّخذ القرار، نبدأ بالعلاج، وإلا سنبقى في إطار المرحلة السابقة بلا تغيير، وستكون سنة ونصف سنة أخريان من إضاعة الوقت. انطلاقة الاقتصاد تكون من القطاع المصرفي، إذ لا نهضة من دون المصارف.

خلال السنوات الثلاثين الماضية، كان «النظام» يعمل بالاعتماد على استقدام التدفقات من الخارج لاستخدامها في الداخل وتمويل الاستهلاك المستورد. انفجر هذا «النظام»، والآن نستقدم صندوق النقد لإحيائه مع ضوابط، فما الذي يمنع تكرار انفجاره؟

أي حكومة مقبلة، عليها أن تعرف أنّ النظام الاقتصادي والمالي السابق انتهى لعدة أسباب، منها أنّ لبنان قادر على الاستدانة ولديه تدفقات من الخارج تغطّيه. من أهم أسباب انهيار نموذج الاقتصاد الذي كان سائداً، هو العجز التوأم في المالية العامة وفي الميزان الجاري (العجز التجاري تحديداً). على أيّ حكومة قادمة الاعتراف بنهاية هذا النظام، وأي استمرار فيه يجب مجابهته. علينا تقديم صورة جديدة للخارج للمشاركة في التعافي الاقتصادي. علينا تقديم نظام اقتصادي يقوم على الزراعة والصناعة والسياحة. الاقتصادات تُبنى الآن على التنوّع حتى في دول الخليج.

■ هل أنت مع استقرار سعر الصرف أم تثبيته أم معوّم؟

في عام 2020، كان أحد شروط صندوق النقد تحرير سعر الصرف ليكون مبنياً على العرض والطلب. أجبنا بالموافقة مع التدرّج في التحرير ليصبح سعر الصرف معبّراً عن الوضع الاقتصادي، وكي لا نقع في تقلّبات كبيرة تفرض على مصرف لبنان التدخل، وحتى يكون بالإمكان وضع مقوّمات اقتصادية تحميه من التقلبات. وافق صندوق النقد على خطتنا. صحيح أن سعر الصرف مستقرّ الآن، إنما هو هشّ لأنه ليس مستنداً إلى مقوّمات اقتصادية. عندما انفجرت الأزمة راجت فكرة إنشاء مجلس نقد مهمته إيجاد كتل نقدية متوازية بين العملة المحلية والعملات الأجنبية.

هذا يؤدي إلى نوع من الاستقرار النقدي، لكن له تبعات لأنه يجمّد الاقتصاد ويوقف الصرف، ومنه الصرف الاجتماعي. ففي مجلس النقد، نصل إلى عجز صفري في الموازنة، أما اليوم، فلدينا فائض في الموازنة يحصل لأنّنا توقفنا عن دفع خدمة الدين التي تشكّل 33% من الموازنة، ولأننا لا ندفع الكهرباء التي تشكّل 10% من الموازنة. لهذه الأسباب حقّقنا في عام 2021 أول فائض في الموازنة منذ 30 سنة بنسبة 1% من الناتج المحلي. من الطبيعي في هذا الوضع الوصول إلى الفائض.

زارني في أحد الأيام أحد المسؤولين في صندوق النقد (محمد محي الدين)، وسألني: أسمع اقتراحات عن مجلس نقد، ما رأيك؟ كوزارة مالية، لم نتبنّ. فردّ بأنّ لصندوق النقد رأياً مشابهاً، وهذا أمر اصطناعي، ففي ظل نظام كهذا، عندما تفلت لا يمكن تهدئتها. أنا مع التحرير التدريجي لسعر الصرف، لا التثبيت الذي يعيدنا إلى حقبة رياض سلامة التي تقوم على «كله تمام».

■ كيف ترى القطاع المصرفي الجديد، من يجب أن يبقى؟ وماذا يجب أن يتغيّر؟

على مدى 3 عقود، لم تلعب المصارف دوراً في تعزيز الاقتصاد أو المجتمع. لعبت دوراً وحيداً يهدف إلى تعزيز الأرباح من خلال التوظيف مع الدولة. فما أظهرته الأرقام، أنّ 70% من أموال المصارف موظّفة في سندات الدولة وشهادات الإيداع. سوء التوظيف هذا كان يمكن لمصرف لبنان أن يوقفه، فيما حجّة المصارف بأنّ مصرف لبنان أجبرها على التوظيف يجب أن تدفع نحو إصلاح قانون النقد والتسليف.

وإعادة الهيكلة يجب أن تبدأ بمصرف لبنان وبقانون النقد والتسليف، وبعلاقة مصرف لبنان مع المصارف، وبلجنة الرقابة على المصارف المغيّبة بشكل تام والتي لم تقم بأيّ دور خلال السنوات الثلاثين الماضية. يجب التدقيق في كل مصرف، فمن هو قادر على الاستمرار بشروط مشدّدة عليه أن يقدّم ضمانة للمودع، ومن لا يتمكن من الاستمرار يُصفّى أو يُدمج. يجب اتخاذ القرارات بسرعة بينما الحكومة بطيئة في آلية اتخاذ القرارات. لكن، لا يمكن الإبقاء على مصارف متعثّرة وأخرى تعمل. على الحكومة الحالية مسؤولية اتخاذ القرار، ومنع المصارف من الاستمرار بالسياسة السابقة القائمة على تحقيق الربحية فقط، وأن تفرض عليها لعب دور اقتصادي واجتماعي أولاً.

لا يستطيع أي مصرف ممارسة مهامه إن لم تكن ميزانيته سليمة. يحصل كل مصرف على مهلة غير مفتوحة لمعالجة خسائره ثمّ ينظر في أمره. هناك عدد كبير من أصحاب المصارف لا يريدون الاستمرار في فتح مصارفهم. وليس هناك حديث عن تصفير رساميل المصارف. الحاكم السابق (رياض سلامة) قالها لي مباشرة: بالمبدأ أنا ضدّ إفلاس وتصفية أي مصرف، والوقت هو من يعالج المشكلة. كان يعالج السرطان بالوقت! بينما كان رأي الصندوق أن العلاج بالوقت يؤدي إلى وفاة كبيرة جداً.

سابقاً، كان يمكن العلاج، ولكن بعد انهيار القطاع بأكمله لا يمكن العلاج بهذه الطريقة. يظهر نفوذ المصارف في قدرتها على النفاذ من المشاريع الإصلاحية. مثلاً، خطتنا لم تمرّ بسبب نفوذ المصارف، والأمر تكرّر مع خطة نائب رئيس الحكومة السابق سعادة الشامي. ورغم قولهم إننا لم نتشاور مع المصارف، إلا أن نفوذ المصارف قوي جداً جداً.

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةحزب الصندوق وحزب المصرف على طاولة الحكم | حكومة الاختصاصات: هل يكفي ذلك لإدارة شؤون المجتمع؟
المقالة القادمةكشف المتورطين ومحاسبتهم واستعادة الأموال المنهوبة