غرائب وعجائب الموازنة اللبنانيّة

شكّلت الموازنة المسلسل الرمضاني الأبرز طوال الأسابيع الماضية، مع كل العراضات السياسيّة التي رافقتها، وفي مقدّمها تشديد كلّ طرف على استنفاده كل الأفكار المتاحة، في سبيل الخروج من الأزمة، عبر الموازنة الأكثر تقشّفاً في تاريخ لبنان. لكنّ ما يتم تسويقه كخطوات خلّاقة، يبدو علميّاً أقرب إلى خطوات متسرّعة ذات أهداف قصيرة الأجل، مثل تقليص العجز في دفاتر الموازنة، إلتزاماً بشروط مؤتمر سيدر، بينما تذهب الأمور عكس المطلوب تماماً على صعيد التعاطي مع الأزمة الفعليّة.

بند لتشجيع التحويلات الماليّة إلى الخارج!
ما جرى إقراره في مجلس الوزراء من بند ينص على فرض رسوم على عائلات العمّال الأجانب المقيمين في لبنان، يشكّل المثال الأبرز على هذا التسرّع، والسير بخلاف المصلحة الاقتصاديّة. فالبند لا يمثّل عمليّاً إلّا حافز إضافي للعمّال الأجانب لإخراج عائلاتهم والإنفاق عليهم في بلدانهم الأم، بينما المطلوب الآن النقيض بالضبط: تقليص مستوى التحويلات إلى الخارج إلى أدنى مستويات ممكنة. خصوصاً أنّ جزءاً أساسياً من المخاطر الاقتصاديّة القائمة الآن، يتمحور حول عجز ميزان المدفوعات المتفاقم، والذي يمثّل صافي التحويلات النقدية بالعملة الصعبة بين لبنان والخارج. بالتأكيد تملك بعض القوى السياسيّة أولويّات مختلفة، تشجّعها على إقرار مثل هذا البند، لكنّه بالتأكيد لا يسير في إتجاه التعاطي مع الأزمة الموجودة.

رسم 2 في المئة أي غاية يخدم؟
وفي السياق نفسه، تم تسويق زيادة رسم الـ2 في المئة على البضائع المستوردة، بوصفه إجراءً حمائياً وإنقاذياً قادراً على حماية الإنتاج المحلّي. بينما في الواقع، هذا النوع من الإجراءات لا يعطي نتائج فعليّة إذا لم يقترن بخطّة واضحة وشاملة لدعم الإنتاج الوطني، وهو ما لا يحدث بالتأكيد مع أكثر الموازنات تشدّداً في حصر الإنفاق الاستثماري إلى حدوده الدنيا. أمّا نتيجة هذا الرسم من دون دعم فعلي للنشاط الإنتاجي في لبنان، فستكون حكماً إطلاق العنان لزيادة في معدّلات التضخّم وتشجيع التهريب -الموجود أساساً- وتعزيز الإحتكارات في قطاعات معيّنة. وفي النتيجة، ستضرب هذه التبعات الإنتاج المحلّي نفسه، وقدرته على المنافسة في الأسواق الخارجيّة، وتحديداً بسبب التضخّم وارتفاع كلفة الإنتاج، خصوصاً إذا طالت هذه الرسوم المشتقات النفطيّة والتي تشكّل عاملاً حاسماً في كلفة الطاقة على المنتجين.

وبالأرقام، بلغت قيمة البضائع المستوردة السنة الماضية 19.98 مليار دولار، بينما لم تتجاوز قيمة البضائع المصدّرة مستوى 2.95 مليار دولار. وهو ما يعني بوضوح وجود فرق شاسع بين حجم البضائع المستوردة وحجم البضائع المنتجة محليّاً القادرة على المنافسة. وإذا طبّق الرسم هذا من دون إيجاد البدائل الوطنيّة ودعمها، فلا معنى له سوى رفع الأسعار وتحميل المواطن كلفة الواردات الإضافيّة للخزينة.

محاصرة النشاط السياحي
وبينما يقبل لبنان على موسم سياحي يُقال أنّه واعد، وفي ظل الحاجة الماسّة إلى العملة الصعبة، المتأتية من النشاط السياحي، اختارت الحكومة فرض رسوم تتراوح بين 3 آلاف و10 آلاف ليرة لبنانية على كل ليلة إشغال غرفة في الفنادق، حسب التصنيف، بالإضافة إلى رسوم تراوحت بين 5 آلاف و10 آلاف ليرة لبنانيّة على كل ليلة إشغال غرفة في الشقق المفروشة. كما اختارت الحكومة رفع سمات الدخول إلى لبنان بنسبة 50 في المئة، سواء لمرّة واحدة أو لمرّات عدة. مع العلم أنّ لبنان على الصعيد السياحي تحديداً يواجه تحدّياً كبيراً متعلّقاً بالتنافس الإقليمي على الأسعار المعروضة، خصوصاً في ظل تدنّي كلفة السياحة في تركيا ومصر، بعد تحوّلات أسعار صرف العملات فيهما. هنا تسير المقرّرات مجدّداً عكس المصلحة الاقتصاديّة طويلة الأمد، وبالأخص لجهة طريقة التعاطي مع الأزمة الاقتصاديّة القائمة في البلاد.

حلول للأزمة… أم لسيدر؟
تطول اللائحة، فتمر بين القرارات بنود أخرى تضيف إلى الخناق الذي تعانيه المؤسسات الإنتاجيّة، كالبند الذي ينص على مضاعفة رسوم إجازات العمل مثلاً. كل ذلك يساهم في إعطاء الموازنة الصورة التقشّفيّة القاسية التي يرغب المسؤولون برؤيتها، حسب الشروط المطلوبة لفتح الأبواب أمام أموال مؤتمر سيدر، لكنّ أياً من تلك البنود لا يصب في خانة السير في حلول فعليّة للأزمة، التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني في هذه المرحلة. فحلول الأزمة تحتاج أولاً إلى إعادة نظر واسعة في النمط الذي يسير عليه اقتصادنا، والسياسات القادرة على خلق اقتصاد منتج، وهو ما نقوم بنقيضه تماماً اليوم!

بواسطةعلي نور
مصدرالمدن
المادة السابقةمستقبل قطاع الفنادق بعد رفع أسعار الغرف
المقالة القادمةمذكرة ادارية بالاقفال في اليومين الأول والثاني من عيد الفطر