اعلنت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا خلال المنتدى السابع للمالية العامة في الدول العربية المنعقد في دبي خلال القمّة العالمية للحكومات أنه بعد مرور عشرين عاماً على استضافة دبي لاجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي السنوية، سنشهد انعقاد الاجتماعات السنوية في مراكش خلال شهر تشرين الأول.
وخلال هذه السنوات، حقق العالم العربي تقدماً هائلا، ولعب دوراً قيادياً حقيقياً على مستوى العالم. وأذكر هنا القمة العالمية للحكومات التي تبدأ فعالياتها غداً، واستضافة المنطقة مؤتمر الدول الأطراف للعام الثاني على التوالي.
وركزت على إحدى القضايا الإقليمية الأكثر إلحاحاً، وهي كيفية تعزيز صلابة الموارد العامة لحماية شعوبنا واقتصاداتنا ومناخنا.
الآفاق الإقتصادية
وقالت ان نمو الاقتصاد العالمي ضعيف، لكنه ربما يشهد نقطة تحول في الوقت الحالي. فبعدما ارتفع النمو بنسبة 3,4% في العام الماضي، نراه يتراجع إلى 2,9% خلال عام 2023، ليسجل تحسناً طفيفاً في عام 2024 حيث سيصل إلى 3,1%. وقد أعلنا أحدث تنبؤاتنا منذ أسبوعين، وهي وإن كانت أقل قتامة مقارنة بتشرين الاول، فإنها لا تزال تشير إلى تراجع النمو، كما تظل مكافحة التضخم من الأولويات في عام 2023.
ولفتت الى أنه على الجانب الإيجابي، نشهد حالياً تراجع التضخم من 8,8% في عام 2022 إلى 6,6% هذا العام و4,3% في العام 2024 – وإن كان سيظل متجاوزاً مستويات ما قبل الجائحة في معظم البلدان. ومن العوامل المساعدة إعادة فتح الصين، وصلابة أسواق العمل والإنفاق الاستهلاكي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
واعتبرت أنه بينما تبدو الصورة واعدة، لا تزال التطورات السلبية هي الكفة الراجحة في ميزان المخاطر. فمن الممكن تعطل مسيرة التعافي في الصين. وقد يظل التضخم متجاوزاً للتوقعات، مما سيقتضي المزيد من التشديد النقدي – الذي قد يؤدي إلى عمليات إعادة تسعير مفاجئة في الأسواق المالية. وربما تتصاعد الحرب الروسية في أوكرانيا مخلفة اقتصاداً عالمياً أكثر تفككاً.
النمو في المنطقة
ومع تباطؤ الاقتصاد العالمي، أشارت الى أنه يُتوقع تراجع النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أيضاً من 5,4% في عام 2022 إلى 3,2% هذا العام، قبل أن يرتفع إلى 3,5% في العام 2024. وفي البلدان المصدرة للنفط، قد يؤدي تخفيض الإنتاج وفق اتفاقية أوبك+ إلى تراجع إيرادات النفط الكلية. وستتواصل التحديات في البلدان المستوردة للنفط. ويمثل الدين العام مصدر قلق كبير، حيث تواجه عدة اقتصادات في المنطقة ارتفاعاً في نسب الدين إلى إجمالي الناتج المحلي التي تقارب 90% في بعض الاقتصادات.
وللعام الرابع على التوالي، نتوقع أن يتجاوز التضخم في المنطقة 10% – وهو ما يزيد على المتوسط العالمي. وفي اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات منخفضة الدخل في المنطقة، يعكس ذلك التداعيات الممتدة لارتفاع أسعار الغذاء، وانخفاض أسعار الصرف في بعض الحالات. وحسب توقعاتنا، يتراجع التضخم تدريجيا مع استقرار أسعار السلع الأولية وتحقق الأثر المرجو من تشديد السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. ونتوقع استمرار بلدان مجلس التعاون الخليجي في احتواء التضخم. وهناك عدة مخاطر تستدعي القلق في المنطقة أيضاً. فالحرب الروسية في أوكرانيا والكوارث المناخية قد تؤدي إلى تفاقم عجز الغذاء في البلدان الأكثر عرضة للمخاطر. ويُضاف إلى ذلك الارتفاع المزمن في معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب، مما يضعنا أمام خطر هائل يهدد الاستقرار الاجتماعي.
كذلك يمكن أن تؤدي زيادة تشديد الأوضاع المالية العالمية أو المحلية إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض، بل ونقص التمويل في بعض الحالات. ومن شأن تأخر الإصلاحات المحلية الملحة أن يفرض عبئاً على الآفاق الإقليمية والموارد الحكومية.
وشدّدت على أننا نشهد عاماً صعباً آخر. ولكن هناك أسباباً للتفاؤل. ولا تخلو جعبتنا من الحلول لجعله عاماً أفضل!
وهنا، في المنطقة، بإمكاننا جميعاً أن نستلهم الكثير من الروح الجماعية لأسود الأطلس المغاربة وإصرارهم في بطولة كأس العالم في قطر. وألقت الضوء على ثلاثة مبادئ يمكن للبلدان الاسترشاد بها في توظيف سياسات المالية العامة في بناء الصلابة، مع التركيز لاحقاً على سبل التعاون من أجل تسديد الأهداف في مرمى القضايا التي لن تتسنى لنا مواجهتها إلا سوياً.
بناء الصلابة المالية
وشددت على ضرورة وضع إطار قوي لإدارة سياسة المالية العامة والتعامل مع المخاطر المحيطة بها. ففي عالم اليوم المعرض للصدمات والذي يكتنفه عدم اليقين، أصبحت إدارة سياسة المالية العامة أكثر أهمية، ولكن أكثر تعقيداً أيضاً.
فلننظر إلى تقلبات أسعار الطاقة والغذاء في المنطقة – والتي تتطلب من الحكومات التدخل لحماية الفئات الضعيفة مع مواصلة خطط التنمية والاستثمارات. ويقتضي ذلك التخطيط الدقيق وتوافر الموارد اللازمة. وهذا ما يفعله المغرب من خلال إلغاء الدعم المكلف غير الموجه تدريجياً لصالح توفير الدعم الاجتماعي الذي يستهدف الفئات المستحقة. كذلك وضعت موريتانيا ركيزة مالية لمواجهة تقلبات إيرادات تصدير المعادن، كما رفعت أسعار الوقود بنسبة 30% من خلال تخفيض الدعم. وتعمل بعض البلدان المستوردة للطاقة على بناء احتياطياتها عندما ترتفع الأسعار استعداداً لمواجهة تقلبات أسعار النفط.
واشارت الى أنه على الحكومات أيضا إدارة العديد من المخاطر التي تهدد مالياتها العامة، بما في ذلك الناجمة عن الضمانات العامة وخسائر الشركات المملوكة للدولة، مما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الدين وتخفيضات حادة في النفقات الضرورية. وتعكف مصر حاليا على تعزيز الرقابة على هذه المخاطر للمساعدة في إدارتها.
الى ذلك اعتبرت أن عدة بلدان عربية تشهد تنفيذ أطر مالية عامة متوسطة الأجل تتسم بالمصداقية، وهي عامل أساسي في التخفيف من حدة المخاطر حال تحققها، كما تمكن الحكومات في الوقت نفسه من مواصلة أوجه الإنفاق الضرورية، والحفاظ على استقرار الدين، وبناء ثقة المستثمرين. ويساعد الصندوق بلدانه الأعضاء في وضع هذه الأطر، كما تساعد مجموعة أدوات إدارة مخاطر المالية العامة التي وضعها الصندوق في الكشف عن المخاطر، وقياس تكلفتها المحتملة، وتحديد الأولوية للتدابير اللازمة لمعالجتها.
ضرورة زيادة الإيرادات الضريبية
وتناولت تعزيز الإيرادات الضريبية. فالاستثمار في مستقبل أكثر صلابة مرهون بمواصلة تعزيز سياسات الضرائب والإدارة الضريبية. وقد أحرزت بلدان عديدة في المنطقة تقدماً كبيراً في تعزيز قدراتها الضريبية. ومع ذلك، فإن متوسط نسبة الضرائب إلى إجمالي الناتج المحلي، ما عدا الإيرادات المرتبطة بالهيدروكربونات، لا يزال 11% تقريبا – أي أقل من نصف الحصيلة الممكنة.
ويمكن زيادة هذه النسبة من خلال تحسين تصميم السياسات الضريبية والإلغاء التدريجي للإعفاءات الضريبية المفتقرة للكفاءة. فعلى سبيل المثال، تعمل الجزائر حالياً على توسيع الوعاء الضريبي وتوزيع العبء الضريبي بعدالة أكبر. ونجحت البحرين والسعودية في جمع إيرادات هائلة من خلال تطبيق ضريبة القيمة المضافة. وفي الإمارات العربية المتحدة، يُتوقع تطبيق ضريبة دخل الشركات بصورة تدريجية.
والعامل الأساسي الآخر لزيادة الإيرادات هو تحديث الإدارة الضريبية، كما يمكن أن يساعد استخدام الأدوات الرقمية في هذا الصدد. وهذا ما قام به الأردن بالفعل، كما اتخذت وزارة المالية الفلسطينية إجراءات مماثلة. ويعكف الصومال أيضاً على إصلاح السياسات والإدارة لإعادة بناء القدرات الضريبية. ويُتوقع أن تساهم مثل هذه الإجراءات في زيادة الإيرادات من خلال تحسين الامتثال، كما يمكن أن يساعد الصندوق من خلال برامج تنمية القدرات في تصميم هذه الإجراءات وتنفيذها.
تعميق التعاون الدولي
وأكدت مديرة الصندوق أن بعض البلدان في الوقت الحالي لا تتيح سياساتها المحلية ببساطة حلاً كافياً لمواجهة تحدّ عاجل آخر، ألا وهو عدم استمرارية القدرة على تحمل الدين.
فأعباء الدين الساحقة يصعب معها الإنفاق على الصحة والتعليم والبنية التحتية، ويقع ضررها الأكبر على الفئات الأكثر عرضة للمخاطر، ولكنها تمثل أيضاً مشكلة مشتركة تواجه المنطقة والعالم أجمع.
وهنا تتجلى أهمية العمل الجماعي. فوجود العديد من دائني القطاعين العام والخاص يعني أن مشكلة عدم استمرارية القدرة على تحمل الدين يكمن حلها الأوحد في التعاون متعدد الأطراف. واستجابة لأزمة كوفيد، أطلقت مجموعة العشرين برئاسة السعودية مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين في العام 2020. وتلا ذلك إعلان الإطار المشترك لمعالجة الديون. لكن مهمتنا لم تنته بعد رغم مرور ثلاث سنوات. فلا يزال علينا بذل المزيد من الجهود لجعل عملية معالجة الديون أكثر سرعة ووضوحاً، وضمان استفادة جميع البلدان منها عند الحاجة. كما اشارت الى أنه علينا الآن دفع الكرة إلى الأمام صوب الهدف – ليس على صعيد الدين السيادي فحسب.
تاريخ قوي من التعاون الإقليمي
وتوجهت الى دول المنطقة بالقول: لديكم بالفعل تاريخ قوي من التعاون داخل العالم العربي. فعلى مدار السنوات الخمس الماضية على سبيل المثال، أتاحت بلدان مجلس التعاون الخليجي 54 مليار دولار أميركي لتمويل احتياجات الميزانية وميزان المدفوعات. وقدمت الدعم إلى البلدان منخفضة الدخل، والدول الهشة والمتأثرة بالصراعات في المنطقة، من خلال تخفيض الديون ودعم أمن الغذاء. ويبلغ ذلك الدعم الذي أعلنته مجموعة التنسيق العربية في العام الماضي 10 مليارات دولار أميركي. ويمكن للبلدان المانحة مواصلة دعم الاستقرار الاقتصادي والنمو على مستوى المنطقة من خلال المبادرات المتعددة الأطراف.
وقدم الصندوق ما يقرب من 20 مليار دولار أميركي في صورة دعم مالي لبلدانه الأعضاء في المنطقة منذ بداية الجائحة. وتلقى العالم العربي أكثر من 37 مليار دولار أميركي كجزء من عملية تخصيص حقوق السحب الخاصة الأكبر في تاريخ الصندوق العام 2021، والتي بلغت قيمتها 650 مليار دولار أميركي.
ونعمل حاليا مع البلدان ذات الاحتياطيات الأكبر لتحويل هذه الأصول إلى البلدان الأكثر احتياجاً. ويعني ذلك أيضا تحويل حقوق سحب خاصة إلى الصندوق الإئتماني للنمو والحد من الفقر لضمان استمراره في توفير قروض بسعر فائدة صفري للبلدان منخفضة الدخل.
مكتب الرياض
قالت كريستالينا غورغييفا ان صندوق النقد مستمر بشراكته مع بلدانه الأعضاء في المنطقة. وسيساهم مكتبنا الجديد في الرياض في تعزيز مشاركتنا الإقليمية لصالح جميع شعوب العالم العربي – وهو مثال آخر على أوجه التعاون مع المنطقة ودورها القيادي.
750 مليار دولار لتمويل التدابير المناخية
تناولت مديرة صندوق النقد الدولي التخطيط والاستثمار على المدى الطويل لمواجهة تحديات المناخ. فمن شمال أفريقيا إلى آسيا الوسطى، تبلغ مستويات الاحترار في المنطقة ضعف معدلها في باقي أنحاء العالم.
وقالت: وبخلاف ضرورة الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في كل مكان، نحتاج إلى العمل عبر جبهات عديدة. فعلى سبيل المثال، يمثل الاستثمار في البنية التحتية المقاومة لتغير المناخ ونظم الإنذار المبكر عاملاً أساسيا لتعزيز صلابة المنطقة. وينطبق ذلك أيضاً على استثمارات الطاقة المتجددة، وجهود الحد من كثافة الكربون في مختلف اقتصادات المنطقة.
وفي السياق اكدت ان حكومات المنطقة أعلنت عن احتياجات تمويلية متعددة لسنوات بقيمة تتجاوز 750 مليار دولار أميركي لاتخاذ هذه التدابير. وتعتمد تلبية هذه الاحتياجات على توفير بيئة مؤاتية للتمويل المناخي الخاص من خلال السياسات والحلول المالية السليمة.
وهنا أيضا يضطلع الصندوق بالدور المنوط به. فقد أصبح المناخ في صلب عملنا، ونتعاون حالياً مع شركائنا على إحراز التقدم المرجو في تنفيذ خطة تمويل العمل المناخي. ويهدف ذلك الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة الجديد إلى تحسين السياسات وتوفير تمويل طويل الأجل بتكلفة معقولة لمواجهة التحديات المناخية. وهناك مناقشات جارية بالفعل مع مصر وبلدان أخرى للاستفادة من تمويل الصندوق الاستئماني للصلابة والاستدامة.