فائض «قوّة» الليرة أصبح عجزاً بالغاً

أبرز مظاهر الأزمة التي يعيشها لبنان منذ عام 2019 هي التدهور الكبير الذي شهدته قيمة العملة المحليّة. والحديث هنا ليس عن سعر الصرف في السوق فحسب، بل عن القيمة الحقيقيّة لليرة اللبنانية، أي قيمة الليرة محتسبة على أساس الدولار الدولي. فالسلع التي كانت تساوي دولاراً واحداً في الخارج وكان يمكن شراؤها بقيمة 659 ليرة عام 2019، بات يتطلب شراؤها في لبنان 5.5 أضعاف عام 2021، وأكثر بكثير عام 2022. الخسائر تزداد في بنية الاقتصاد والمجتمع، أما التكيّف الظاهر لا يعوّض أياً منها

تُظهر أرقام صادرة عن الـ «إسكوا» أنّ قيمة الليرة بحسب مؤشّر تعادل القوة الشرائية (PPP)، كانت تعادل 659 ليرة لكل دولار في عام 2019، ثم بلغت 1304 ليرات مقابل الدولار عام 2020، ويقدّر أنها بلغت 3639 ليرة مقابل الدولار. هنا الحديث ليس عن سعر صرف الدولار في لبنان، بل عن قوّة الليرة الشرائية مقابل الدولار الدولي. إذ يتم استعمال الدولار الدولي لمقارنة قوّة العملة المحلية على شراء سلّة من السلع. بمثال بسيط، إذا أتى أي شخص إلى لبنان حاملاً معه دولاراً واحداً وأنفقه في لبنان على شراء سلعة ما، ثم سافر إلى دولة أخرى حيث اشترى السلعة نفسها إنما بكمية نقود مختلفة. بهذا المعنى تتم مقارنة القوّة الشرائية لليرة اللبنانية مع عملات دول أخرى. ففي عام 2019، ما كان يمكن شراؤه من سلع في لبنان بقيمة 659 ليرة، كان يمكن شراؤه بدولار واحد في دول أخرى، إنما عام 2020 تضاعف عدد الليرات التي يحتاجها الفرد لشراء السلعة نفسها التي يساوي سعرها دولاراً واحداً في الخارج، وبات الأمر يتطلّب أكثر من 5.5 أضعاف كمية الليرات عام 2021… والحبل على الجرار للسنوات المقبلة.

هذا الأمر ليس حدثاً بسيطاً، إذ إن الفوارق البسيطة في تقلّبات سعر الصرف ونموّ الاقتصاد وسائر المؤشرات، لا يمكن أن تنعكس تغيّراً واسعاً عند مقارنتها مع الدولار الدولي، ولا تظهر هذه التغيرات الكبيرة إلا عند انفجار تضخمي سريع وحادّ. وهنا تحديداً أهمية هذه المقارنة. فمهما بلغ مستوى التكيّف في الداخل من خلال إجراءات قهرية يفرضها مصرف لبنان والحكومة، أو من خلال تعويض المقيمين عبر قنوات التوزيع النقدية، لا يؤدّي هذا التكيّف أو التعويض النقدي، إلى تغطية الخسائر الكبيرة التي أصابت الاقتصاد والمجتمع، علماً بأن المقارنة بين القوّة الشرائية في لبنان والخارج، لا تذكر بأي شكل من الأشكال أن تعويض الخسائر يتطلّب سنوات من النهوض والازدهار التي لا يظهر لها أي أفق حالياً.

ووفقاً لنتائج تعادل القوة الشرائية، تراجعت القوة الشرائية لليرة اللبنانية على مستوى الناتج المحلي الإجمالي مقابل الدولار الأميركي من 659 ليرة لبنانية لكل دولار واحد في عام 2019 إلى 1304 ليرات لبنانية في عام 2020، ومن المتوقع أن تصل إلى 3639 ليرة لبنانية في عام 2021، ما يعني خسارة نصف القوة الشرائية للعملة المحلية بحلول عام 2020، وخسارة إجمالية متوقعة تبلغ 82% من قوّتها الشرائية بين عامَي 2019 و2021. لكن نتائج التقرير تكشف عن أزمة أشدّ في القوّة الشرائية للبنانيين، إذ إن الأسر في عام 2021 احتاجت إلى 5.5 أضعاف الليرات اللبنانية التي كانت تدفعها في عام 2019 للحصول على نفس القيمة المعادلة بالدولار الأميركي. وبلا أدنى شكّ إن القوّة الشرائية للمقيمين في لبنان انخفضت أكثر عند مقارنتها مع الخارج.

وعند إعداد التقرير لم يكن لبنان قد أصدر بعد حسابات الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020، ما أجبر الـ «إسكوا» على استبعاده عند مقارنة الأحجام الحقيقية لنحو 12 اقتصاداً عربياً. لكن مع صدور تقديرات الإحصاء المركزي للناتج المحلي الإجمالي لعام 2020 والبالغ 95700 مليار ليرة، يمكن إعادة إنتاج المقارنة مع الاقتصادات العربية. وفق تقديرات خاصة، تشير هذه المقارنة إلى أن لبنان سجّل انخفاضاً في حساب الناتج المحلي المقوّم بتعادل القوة الشرائية بنسبة 46%، ما دفع ترتيب الاقتصاد اللبناني إلى التراجع من المرتبة العاشرة من أصل 13 اقتصاداً عربياً في عام 2017، إلى المرتبة 12 عام 2020.

عندما كانت القوّة الشرائية لليرة تجاه الخارج تساوي 659 ليرة لكل دولار واحد، فإن سعر الليرة في الداخل كان يبلغ 1507.5 ليرات وسطياً. صحيح أنه لا ربط بين الأمرين، فالتسعير الداخلي للعملة أمر يتعلق بالسياسات الاقتصادية، إنما اللافت أن تطوّر انخفاض القدرة الشرائية لليرة في الداخل انعكس مباشرة على قوّتها الشرائية في الخارج. بمعنى أوضح، كانت الليرة في الداخل مدعومة وسعرها منفوخ، إنما عام 2020 ارتفع سعر الدولار النقدي في لبنان إلى 10 آلاف ليرة، بينما انخفضت القوّة الشرائية المحتسبة وفق منطق الـ(PPP) إلى 1304 ليرات لكل دولار. في الواقع، كان جزءاً أساسياً من واردات لبنان مستورد بأسعار مدعومة بواسطة السياسة النقدية. يُعتقد أن مصرف لبنان أنفق نحو 7.5 مليار دولار سنوياً على دعم استيراد السلع، وأن المستهلكين كانوا يدفعون ثمنها بالليرة على سعر 1507.5 ليرة وسطياً مع هامش إضافي مرتبط بالاحتكارات التجارية وهوامش أرباحها، لذا، لم يسجّل تعادل القوّة الشرائية مع الخارج انخفاضاً كبيراً، بعكس السنة التالية، أي عام 2021. ففي هذه السنة، خفّض مصرف لبنان حجم الدعم لليرة وبدأ يتخلّى تدريجاً عن تمويل السلع المدعومة متحوّلاً نحو الدعم الجزئي لاستيراد البنزين وبعضاً من الأدوية والقمح، فأصبحت قيمة الليرة الفعلية محتسبة على أساس الدولار الدولي، تساوي 3639 ليرة لكل دولار. ومن الطبيعي أن تكون القدرة الشرائيّة للعملة قد انخفضت أكثر في عام 2022، بعدما رُفع الدعم بشكل شبه كلّي عن السّلع، وارتفع سعر الدولار في السوق بشكل كبير حتى تخطّى 40 ألف ليرة للدولار أخيراً.

تستعمل تقنية تعادل القوّة الشرائية للمقارنة بين دولة وأخرى، وليست معدّة للمقارنة المحلية في سعر الصرف، وإن كان يمكن «تحميلها» ببعض الدلالات على قوّة الليرة في السنوات الماضية. بشكل عام، إن المقارنة بين القوّة الشرائية لليرة في الخارج، مع تسعير الليرة في الداخل بسعر مثبت بقيمة 1507.5 ليرة وسطياً لكل دولار، يشير إلى أن سعر الليرة كان منفوخاً أكثر من حقيقته، إذ إن الليرة كانت مدعومة بسياسة التثبيت التي ينفّذها مصرف لبنان ما دفع قدرتها الشرائية لتكون أعلى بكثير من قيمتها الفعلية. وهذا الدّعم كان جزءاً من المشكلة، لأنه كان يحصل باستعمال دولارات المودعين لتمويل الاستهلاك المحلي.

يغطي التقرير معلومات عن 13 اقتصاداً عربياً: البحرين، مصر، العراق، الأردن، الكويت، المغرب، عمان، قطر، المملكة العربية السعودية، فلسطين، السودان، الإمارات العربية المتحدة. وقد تم اعتماد الاقتصاد العُماني كاقتصاد الأساس الذي تتم مقارنة الدول العربية فيه لحساب تعادل القوة الشرائية ومقارنة العملات بالريال العماني، وعلى صعيد العالم تم استخدام اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية كأساس للمقارنة والدولار الأميركي لحساب الناتج المحلي الإجمالي.

مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقةفي جيوب مَنْ حطّت 74 مليار دولار؟
المقالة القادمةهل يجذب اتّفاق الترسيم الاستثمارات الخارجية في قطاعات غير نفطية؟