التغيير الاقتصادي المطلوب حالياً، يتخطّى المحاور والمزايدات لينقذ بلداً بات على شفير الهاوية. وقد يكون أحد أهم الامور الواجب التطلع اليها، هو خفض معدل سلسلة الرتب والرواتب، بنسب غير موجعة وبشكل تطبّق فيه على الجميع من موظفين وعسكريين وسياسيين وغيرهم. كذلك وقف المخصصات والمؤسسات والجمعيات الوهمية والتهريب غير الشرعي والاملاك البحرية وغيرها. الامر الذي يساعد الى حد بعيد في تخفيف العجز والحد من الهدر وكمحاولة اخيرة، لخلاص البلد من الإفلاس.
هذه الامور بديهية، في بلد عاش الحروب وسوء الإدارة والمحسوبيات والهدر واخطاء جسيمة اخرى نتجت منها وأدّت بنا الى وضعنا الصعب.
فأي بلد قارب على الافلاس، لا خلاص له الّا في عملية موجعة بعض الشيء، كي لا ينتهي بنا الامر الى امور موجعة اكثر، بما يعني افلاس الدولة والمؤسسات وانهيار النظام المالي والنقدي وغيرها من الصعاب التي عانت منها دول عديدة، ولم تستطع الخروج منها الّا بجملة إصلاحات، وان جاءت متأخّرة.
الوضع خطير جدًا لدرجة انّه يجب على الجميع التضحية، وان كان على حساب رفاهيتهم وحياتهم اليومية وشعبيتهم. وعندما تكون الاصلاحات شاملة وليست نسبية، وتتطبق على الجميع دون استثناء، يكون العلاج اقل ايلاماً والمسلك الصحيح للخروج من الأزمة او بالأحرى تأخير حدوثها، ريثما تتبلور الامور اكثر، مع بدء تدفّق اموال «سيدر» واستخراج النفط وعملية إعمار سوريا.
طبعاً، ليست كل الديون سيئة. وفي الواقع يمكن للاقتراض ان يكون منفذاً لتحويل الاستثمارات في البيئة الأساسية الحيوية والصحة والتعليم وغيرها من المنافع العامة. كذلك الاستثمار في الطاقة الإنتاجية، عندما يسير في الاتجاه الصحيح، يؤدي الى ارتفاع الدخل الذي يمكن ان يعوّض تكاليف خدمة الدين. والديون، لا سيما في الاقتصادات المتقدّمة، ساهمت الى حد كبير في دعم الاقتصاد في اعقاب الأزمات المالية وتجنّب اسوأ النتائج.
مشاكل الديون المرتفعة تنشأ عندما لا يُنفق الاقتراض بحكمة بسبب الفساد وضعف المؤسسات والصدمات الاقتصادية، بما فيها التحولات المفاجئة في التدفقات الرأسمالية، الامر الذي يعوق الدول من سداد ديونها. وهذا عادة ما يحصل في دولة مثل لبنان، حيث الايرادات منخفضة، ونحتاج الى قدر كبير من الموارد الإضافية من اجل التنمية، ولاسيما انّ السندات السيادية غالباً ما تأتي مع ارتفاع اسعار الفوائد وتقصير آجالها وزيادة تكاليف خدمة الدين. لذلك قد تكون هناك اولويات في السياسة العامة يمكن ان تساعد على تحقيق النجاح:
اولاً: بذل جهود أكبر لضمان الاستدامة المالية، بما معناه تحديد الانفاق المالي والعجز من اجل بقاء الدين العام ضمن الحدود المقبولة. كذلك ينبغي النظر في سداد ديون من خلال عائدات ضريبية. كذلك تقييم الاثر المترتب على القروض الجديدة، الامر الذي يحمي المقرض والمقترض من الدخول في اتفاقيات تؤدي الى صعوبات مالية في المستقبل.
ثانياً: تقديم تقارير شاملة وشفافة عن الديون العامة وزيادة الشفافية في ما يتعلق بالتزامات الدين العام، يمكن أن يساعد في منع تراكم أكبر مستحقات خفية تتحول في الوقت المناسب الى دين حكومي.
ثالثاً: تعزيز التعاون بين الدائن والمديونين لإعادة هيكلة الديون وتنسيق العمل في ما بينهم – وهنا وجب التوضيح، انّ علاقة الدولة اللبنانية بمقرضيها لا تزال جيدة، علماً أننا أصبحنا دون خيارات كثيرة في مواجهة واضحة مع التخلّف الافتراضي عن دفع الاصل وخدمة الدين. والامور الأكيدة في هذا كله، انّ زعماء البلاد تجاهلوا ولفترة طويلة هذه المؤشرات ولأسباب سياسية، لاسيما ان الانهيار لا يحدث بين ليلة وضحاها. واول مؤشر عندما يجد البلد نفسه انه لا يمكنه الحصول على اسعار فوائد منخفضة من المقترضين، يكون السبب الاساسي هو عدم ثقة المقرض بأنّ الحكومات سوف تدفع استحقاقات السندات، وانها تذهب الى تخلّف افتراضي لديونها.
هذه الوضعية تنطبق حرفياً على لبنان، لاسيما وأننا نعاني من هذه الأزمة منذ فترة، وما الفوائد المرتفعة إلّا رسائل موجهة الى الحكومات المتعاقبة عن خطورة الوضع وعدم وجود الثقة والانذار بالانهيار.
اما في ما يتعلق بخفض الدين، فانّ الامر يستلزم عملية خفض النفقات وزيادة الواردات. بما معناه زيادة الضرائب او زيادة حجم الاقتصاد. علماً انّ هذه العملية تستغرق وقتاً أكثر وتحتاج الى تخطيط، وقد تكون على المدى البعيد غير واردة في الظرف الحالي. والامر الاشد خطورة هو خدمة الدين الذي بات يستحوذ على جزء كبير من موازنة الدولة، فيما رواتب القطاع العام تستحوذ الجزء الباقي، الامر الذي يجعل خياراتنا محدودة جداً.
اما خفض فوائد خدمة الدين او خفض رواتب القطاع العام، والذي استفاد من سلسلة قد تكون مستحقة انما لم تُقر في وقتها المناسب، ولذلك وجب على المسؤولين اما ”REPROFILING” عملية الدين او الاستعاضة عنها بمساعدة من المصارف لتؤمّن، ولو لفترة، مساعدة للدولة، او الاستعاضة عن ذلك بعملية قد تكون انجح، وهي اقتطاع جزء من اموال السلسلة دون مسايرات وتحدّيات، بل بمنطق اقتصادي يجنّب البلد الانهيار ويساعدنا على الخروج من محنة بقيت تتراكم مع السنين حتى اصبحنا امام حائط مسدود. ما هو مطلوب اليوم، وقف المبارزة والمحسوبيات، والعمل معاً للمساعدة على الخروج من أزمة تهدّد الكيان.