فريق ميقاتي يتآمر على المودعين.. وعلى تفاهم صندوق النقد

في شهر شباط الماضي، سُحبت مسودّة مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي من على طاولة مجلس الوزراء، بعدما رفضت جمعيّة المصارف الصيغة المطروحة. يومها، راسلت الجمعيّة الوزراء والقوى السياسيّة، بتعليمات مكتوبة تضمّن كل بند فيها كلمة “يجب”، لتأمر بتعديل المسودّة وفقًا لشروطها. وبالفعل، عملت لجنة استشاريّة من فريق عمل ميقاتي، بقيادة النائب السابق نقولا نحّاس، على هذه التعديلات، طوال الأشهر الستّة الماضية. الصيغة الجديدة باتت حاضرة اليوم، في “عرض مرئي” من 62 صفحة (النص الكامل). النسخة الجديدة امتثلت للبند (أو الأمر) الأوّل الذي ورد في رسالة المصارف السابقة: أن يتم إشراك المصارف في صياغة الخطّة، كي “تكون الحلول المقترحة مقبولة من جميع الأطراف.”

بشكل عام، الخطّة الجديدة عبارة عن خلطة تعالج الودائع بطريقتين: أولًا، وفق أسلوب الحاكم السابق رياض سلامة، بالنسبة للودائع الصغيرة، وثانيًا وفق مقترحات جمعيّة المصارف بالنسبة للودائع التي تتخطّى الحدود المضمونة. بل ويمكن القول إنّ نحّاس جمع أسوأ ما قدّمه سلامة لصغار المودعين، وأسوأ ما اقترحته جمعيّة المصارف لكبارهم. أمّا الأهم، فهو أن الخطّة عادت لربط الودائع بمسؤوليّة الدولة، عبر تحويل الودائع إلى ديون عموميّة، وهو ما سيعني إغراق الميزانيّة العامّة بإلتزامات لن تُسدّد في المستقبل، كما سيؤدّي إلى الإجهاز على فكرة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. تبديد الودائع، ومستقبل الدولة نفسها، هي نتيجة خطّة نحّاس.

الودائع المؤهّلة وغير المؤهّلة
تمامًا كحال الخطط السابقة، عادت الخطّة الجديدة للتمييز بين الودائع المؤهّلة وغير المؤهّلة. غير أنّ الخطّة الراهنة وسّعت نطاق الودائع غير المؤهّلة، وضيّقت نطاق الودائع المؤهّلة، لتقترب في هذه التصنيفات من المفاهيم التي اعتمدتها تعاميم مصرف لبنان، منذ أيّام الحاكم السابق رياض سلامة.

الودائع المؤهّلة، هي تلك التي ظلّت مستقرّة بالدولار في الحسابات المصرفيّة منذ بدء الأزمة في تشرين الأوّل 2019، ولغاية إجراء عمليّة الهيكلة. وبهذا المعنى، لن يقتصر مفهوم الودائع غير المؤهّلة على الأموال الناتجة عن عمليّات قطع -من الليرة إلى الدولار- بعد بدء الأزمة، كما كان الحال في الخطط السابقة. بل ستشمل الودائع غير المؤهّلة أيضًا أي أموال ناتجة عن تحويلات بالدولار المحلّي من حساب إلى آخر، بعد بدء الأزمة. وهذا ما يشبه تمامًا التمييز الحاصل اليوم، بين الودائع التي تستفيد من التعميم 151 للسحوبات، وتلك التي تستفيد من التعميم 158. هذا التمييز، كان فكرة رياض سلامة منذ البداية.

ثمّة ما يجب الالتفات إليه أيضًا هنا: عند احتساب قيمة الوديعة المؤهّلة، سيتم تنزيل أي قروض سددها المودع سابقًا بالدولارات المحليّة، كما سيتم تنزيل أي سحوبات قام بها عبر تعاميم المصرف المركزي، وأي تحويلات جرت إلى الخارج. الغريب في هذه الفكرة، هو أن الخطّة تُعاقب المودع على السحوبات التي قام بها سابقًا وفق التعاميم، رغم أن هذه التعاميم حمّلته أساسًا خسائر ناتجة عن سعر الصرف المجحف، الذي تم اعتماده سابقًا للسحب بالليرة اللبنانيّة من الحسابات المدولرة.

آليّة تسديد الودائع المضمونة
ما يهمنا من هذا الحديث هو التالي: ستكون كل وديعة مؤهلة مضمونة لغاية 100 ألف دولار فقط، وبالتقسيط على مدى 11 سنة، على أن تبدأ الدفعات الشهريّة في السنة الأولى بـ400 دولار أميركي فقط. أمّا الوديعة غير المؤهّلة، فلن تُضمن إلّا لغاية 36 ألف دولار فقط، وبالتقسيط أيضًا على مدى 11 سنة. غير أنّ الخطّة تلحظ أيضًا تسديد جزء من هذه الدفعات بالليرة اللبنانيّة، بواسطة مصرف لبنان، وبتغطية من الدولة اللبنانيّة (لم توضح الخطّة معنى “التغطية”).

مجددًا، ما يُطرح هنا قريب من جميع الآليّات المُعتمدة حاليًا من قبل مصرف لبنان، والموروثة من حقبة الحاكميّة السابقة. التقسيط المُمل، وبدفعات شهريّة صغيرة، وعلى فترات زمنيّة طويلة، بدل تحويل الودائع إلى أموال “مُحرّرة” بعد معالجة الخسائر، هو تحديدًا ما خطط له مصرف لبنان طوال السنوات الماضية. هذا النمط، سيعني تآكل القيمة الفعليّة للودائع المضمونة بفعل التضخّم عبر الزمن، وإبقاء المصارف على حال “الزومبي”، أو “قيد التصفية”. وهذا ما سيحول دون استعادة الانتظام المصرفي، والتخلّص من التمييز الحاصل بين “الودائع القديمة” المضمونة والودائع “الجديدة” أو “الفريش“، بعد إعادة الهيكلة.

المشكلة الأكبر في ما تطرحه الخطّة هنا، هو تضييق هامش الودائع المضمونة إلى أقصى حد، بعد توسيع نطاق الودائع غير المؤهّلة، إلى أقصى حد ممكن. مع الإشارة إلى أنّ المصارف لن تتحمّل سوى نصف كلفة تسديد الجزء المضمون من الودائع، بالدولار الأميركي، بينما سيتحمّل مصرف لبنان من احتياطاته النصف الآخر.

الودائع غير المضمونة
بعد وضع آليّة لتسديد الودائع المضمونة، وفقًا للمعايير التي أشرنا إليها، تذهب الخطّة في تعداد الخيارات المتاحة للتعامل مع الودائع الأكبر حجمًا، غير المضمونة. التحوّل الأكبر في هذه الخطّة، هو وضع التفاصيل المرتبطة بصندوق استرداد الودائع، بما يطابق إلى حدٍ بعيد الرؤية التي قدّمتها جمعيّة المصارف لهذه الفكرة منذ العام 2020.

الصندوق، سيستحوذ على ملكيّة جميع الأصول العامّة تقريبًا: الكهرباء، مؤسسات المياه، شركات الاتصالات الأرضيّة والخليويّة، إدارة حصر التبغ والتنباك، المرافئ، المطارات، طيران الشرق الأوسط، أليسار، المدن الرياضيّة وملعب الغولف، منشآت النفط، وغيرها.

هذا الصندوق، سيوزّع سندات الدين على كبار المودعين، الراغبين بتحويل سيولتهم إلى حقوق مربوطة بهذه الأصول. تقسيط حقوق المودعين عبر الصندوق، سيمتد إلى فترة تصل إلى 20 سنة.

الخيار الآخر، بالنسبة إلى كبار المودعين، سيكون الحصول على سندات صفريّة، غير منتجة للفوائد، يتحمّل كلفة تمويلها المال العام، بقرض أو تمويل من مصرف لبنان. هذه السندات، لن تستحق إلا بعد 20 سنة بالنسبة للودائع المؤهّلة، و30 سنة بالنسبة للودائع غير المؤهّلة. أمّا الخيار الآخر بالنسبة لهذه الفئة من المودعين، فستكون تحويل الودائع إلى أسهم في المصارف، ضمن شروط تمنع تملّكهم أغلبيّة أسهم المصارف، وتغيير هويّة المالكين في القطاع.

وتشمل الخطّة كذلك إعطاء المودعين تحويل أموالهم –تحت سقف الـ500 ألف دولار- إلى الليرة اللبنانيّة، مع نسب اقتطاع تصل إلى 55% بالنسبة للودائع المؤهّلة، و70% بالنسبة للودائع غير المؤهّلة. وحسب أرقام الخطّة، يمكن تقسيط هذا الجزء من الودائع لفترات تصل إلى 11 سنة، وبكلفة يتحمّلها مصرف لبنان “بتغطية من الدولة اللبنانيّة”. ومجددًا، تبقى عمليّة السداد هنا مرهونة بالوقت وبالتزام المصرف المركزي والدولة بهذا البرنامج.

وقبل الوصول إلى جميع هذه الخيارات، تراهن الخطّة على التخلّص من 9.16 مليار دولار من أموال الودائع، بعد شطب فائض الفوائد التي تم سدادها بين عامي 2015 و2020، والتي تتجاوز نسبتها الـ1%. كما تراهن الخطّة على التخلّص من 4 مليار دولار من الودائع، التي سيصعب على أصحابها إثبات مشروعيّتها أو مصدرها. ولم تشمل الخطّة التعريف الواضح والمفصّل للودائع ذات المصدر غير الواضح، ولو أنّ هذا الإجراء يُعتبر نظريًا خطوة إيجابيّة من ناحية آليّات توزيع الخسائر.

الكلفة النهائيّة للخطّة
في خلاصة الأمر، يمكن القول أنّ الخطّة وضعت إطارًا للتعامل مع 86 مليار دولار من إلتزامات المصارف للمودعين. من أصل هذا المبلغ، ستتحمّل المصارف نصف كلفة تسديد الودائع المؤهّلة الضمونة، أي ما يقارب الـ6 مليار دولار. كما ستتحمّل نصف الجزء الذي سيُسدّد بالدولار، للودائع غير المؤهّلة المضمونة، أي ما تقارب قيمتها الـ2.6 مليار دولار. وسيُضاف إلى العبئين عبء تحويل 9.3 مليار دولار من الودائع إلى أسهم في المصارف. في النتيجة، تكون الكلفة الإجماليّة التي سيتحمّلها القطاع المصرفي 18 مليار دولار، أو 21% فقط من قيمة الودائع الموجودة.

في المقابل، ستتحمّل الدولة –مع مصرف لبنان عبر خلق النقد بالليرة- نحو 45 مليار دولار أميركي من كلفة الخطّة، بما في ذلك الودائع التي سيتم تحويلها إلى ديون على صندوق استرداد الودائع، أو سندات صفريّة، وتلك التي ستتم ليلرتها. بطبيعة الحال، لا يوجد ما يضمن تسديد هذه الأموال فعلًا في المستقبل، لكنها ستتحوّل فعليًا إلى إلتزامات على الميزانيّة العامّة والمال العام. بهذا الشكل، تكون الدولة قد تحمّلت 52% من كلفة الخطّة الإجماليّة.

على مستوى المودعين، ستتحمّل هذه الفئة 13.9 مليار دولار من الخسارة، إما عبر حسم الفوائد أو عدم معالجة الودائع غير واضحة المصدر. لكن المودع سيتحمّل أيضًا اقتطاعات أخرى نتيجة سعر الصرف المعتمد لليلرة الودائع، أو نسبة الاقتطاع التي سيتم تطبيقها عند تحويل الودائع إلى أدوات استثماريّة مختلفة، كما سيتحمّل عمليًا “كلفة الزمن” مع تقسيط الأموال على فترات زمنيّة طويلة. أمّا الأهم، فهو أن جميع المؤشّرات تدل على أنّ هذه الخطّة لا تحمل حلًا مستدامًا، ولا يوجد ما يؤكّد قدرة الدولة والمصرف المركزي على تسديد الإلتزامات التي ستقع على عاتقهما.

بهذا الشكل، أرضى نحّاس والفريق الذي عمل معه جمعيّة المصارف، ولبّى معظم شروطها المرتبطة بمسؤوليّة الدولة، وتحويل الودائع إلى ديون عليها، مع أقل قدر ممكن من المساءلة والمحاسبة بالنسبة لمصدر الخسائر التي تراكمت سابقًا.

الدفاتر لن تُفتح فعليًا، وتوزيع الخسائر لن يستند إلى أي تدقيق يبيّن المستفيدين من الفجوة. عمليّة دفن الودائع، وتركها للتاريخ، ستجري وفق هذه الخطّة كما اشتهت جمعيّة المصارف منذ البداية. وتقسيط الودائع المضمونة على مدى سنوات طويلة سيبقي على التمييز القائم بين الودائع القديمة والودائع الجديدة، وفقًا لرؤية المصارف التي استحدثت مقاصّة وحسابات جديدة للدولارات الفريش.

أمّا أخطر ما في الخطّة، فهو أثرها على ماليّة الدولة واقتصاد البلاد، بعد إضافة كل هذه الديون العامّة، ناهيك عن أثر إسقاط الاتفاق المعقود مع صندوق النقد الدولي.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةحركة مطار بيروت “أكثر من طبيعية”: 60 رحلة يومياً
المقالة القادمةالريجي: استلام محاصيل التبغ بدءاً من 10 أيلول