في أيّار 2023، نشرت “المُدن” مجموعة من التفاصيل المرتبطة بشركة “أوبتيموم إنفست”. تلك الشركة التي نالت ترخيصها عام 2012، قبل أن تتورّط طوال الأعوام اللاحقة بمجموعة من العمليّات المشبوهة مع مصرف لبنان، ومنها بعض الهندسات الماليّة التي حققت أرباحاً مجانيّة وخياليّة على حساب أموال المصرف المركزي العامّة. “المدن”، استندت عند نشر تلك التفاصيل إلى تحقيق أجرته وحدة الرقابة على الأسواق الماليّة، حيث تبيّن أن حسابات الشركة استقبلت أكثر من 8 مليارات دولار، من خلال أكثر من 1500 عمليّة مرتبطة بأعمال الوساطة لبيع سندات وشهادات إيداع مملوكة من المصرف المركزي.
يوم نشرنا ذلك المقال، كان فرعون المصرف المركزي السابق، رياض سلامة، ممسكًا بقرار المجلس المركزي وهيئة التحقيق الخاصّة. ولم يكن متوقّعًا أن يحرّك سلامة ذراع المصرف القانونيّة ليطلب تحقيقًا في فضيحة نسج خيوطها بنفسه، تمامًا كما فعل مع شركة “فوري” التي سجّلها بإسم شقيقه، قبل أن يستعملها في أعمال فضائحيّة بإسم “عمليّات الوساطة”. وتمامًا كحال “فوري”، كانت “أوبتيموم” إحدى تلك الشركات ذات الرائحة الكريهة، التي أدارها مقرّبون من سلامة واستحوذوا من خلالها على أموال المصرف العامّة (تحت مسميات مختلفة، مثل “هندسات” و”وساطة ماليّة” وغيرها).
روائح الفضيحة تفوح مجددًا
خلال الأيام الماضية، وبعد أقل من سنة من نشرنا ذلك المقال، عادت روائح “أوبتيموم” الكريهة لتفوح مجددًا. على وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت صفحات من تدقيق أجرته شركة “كرول” للاستشارات الماليّة، بما في ذلك جدول يلخّص العمليّات التي أجرتها “أوبتيموم”، والتي راكمت المليارات الثمانية الشهيرة. مع الإشارة إلى أنّ التدقيق جرى بموجب تكليف خاص من النيابة العامّة اللبنانيّة، لكن خلاصته جاءت مطابقة لخلاصات تقرير وحدة الرقابة على الأسواق الماليّة، الذي استندنا إليه في شهر أيّار الماضي.
ولمن لا يذكر شركة “كرول”، التي قامت بالتحقيق وبتبويب هذه العمليّات، هي نفسها الشركة التي تم ترشيحها –أيّام حكومة حسّان دياب- للقيام بمهمّة التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. غير أنّ بعض الوزراء، الذين كانوا يعرقلون بدء هذا المسار، طعنوا بالشركة بتهمة “الصهيونيّة”. بعد أربع سنوات على تلك الأحداث، وبعد الكشف عن نتائج عمل الشركة في ملف “أوبتيموم”، على اللبنانيين أن يتذكروا أن بعض وزرائهم لم يطعنوا بتكليف “كرول” إلا لكونها أكثر الشركات تخصّصًا ودقّة في عمليّات التدقيق الجنائي. ولو كانت الشركة “صهيونيّة” بالفعل، لما نالت تكليف النيابة العامّة للتحقيق بملف “أوبتيموم”.
على أي حال، من استفاد من مليارات “أوبتيموم” الثمانية؟ من هو صاحب الحق الاقتصادي الأخير من هذه الشركة؟ كيف تم استعمال هذه المليارات بعدما حلّت في حسابات الشركة لدى مصرف لبنان؟ هناك مكان واحد في هذا العالم يحتوي على كل هذه الإجابات معًا: أقبية ودهاليز مصرف لبنان. هل تغيّرت مقاربة “القيادة الجديدة” للمصرف المركزي اليوم، لكل هذه الفضائح؟ هل بادرت للقيام بأي خطوة توحي بالحرص على أموال المصرف العامّة، التي يُشتبه باختلاسها من خلال تلك العمليّات؟ أبدًا. مقاربة مصرف لبنان للملف، هي نفسها مقاربة الحاكم السابق رياض سلامة.
على أن العودة إلى فضيحة “أبتيموم” اليوم، بعد ركود ملف شركة “فوري” القضائي، هو مناسبة للتذكير بأنّ عالم فضائح الحاكم السابق لم يقتصر على الشركتين. هل هناك من يذكر اليوم مثلًا حكاية “سوفيل”؟ تلك الشركة المملوكة من بعض المصارف اللبنانيّة، التي استحدث لها الحاكم السابق بعض الهندسات الغريبة، لتحقق أرباحًا على حساب المال العام. يومها، لم تقتصر الغاية من “سوفيل” على تأمين الربح المجاني لأصحاب الشركة. بل كانت الغاية أيضًا بيع منتجاتها الماليّة لاحقًا لهيئة الأسواق الماليّة، لتمويل الهيئة من تلك الهندسات، بدل تمويلها من العمولات المفروضة على الشركات الماليّة.
بدل التحقيق في أمر “سوفيل”، يذهب المصرف المركزي اليوم إلى التضييق على عمل هيئة الأسواق الماليّة، بعد إنهاء عمل “سوفيل” لدفن أسرارها. تبدأ القصّة بالسعي لحل هيئة الأسواق الماليّة في أواخر العام الماضي. وبعد صد مجلس الشورى الدولة لهذه المحاولات، تنتقل “القيادة الجديدة” للمصرف المركزي للضغط على موظفي الهيئة، لدفعهم باتجاه الاستقالة. هكذا، يتم تصفية دور الهيئة ومهامها، لقطع الصلة مع ارتكابات المرحلة السابقة، بدل التحقيق في الفضائح التي لازمت عمليّة تمويل الهيئة.
أين الحاكم بالإنابة وسيم منصوري؟
قبل أشهر، وخلال لقاء خاص، طالب مجموعة من النوّاب الحاكمَ بالإنابة وسيم منصوري اتخاذ صفة الادعاء، بإسم مصرف لبنان، على الحاكم السابق رياض سلامة، في ملف فضيحة “فوري”. القيام بهذه الخطوة، من المفترض أن تكون بديهيّة، طالما أنّ الأموال المشتبه باختلاسها هي أموال عموميّة عائدة للمصرف نفسه، وطالما أن اتخاذ صفة الادعاء –أمام محاكم لبنان وأوروبا- سيسمح للمصرف بالتدخّل في مسار الدعوى وتقديم معطياته. ومن غير مصرف لبنان نفسه يملك كل المعطيات في ملف معقّد من هذا النوع؟ وهل كان بإمكاننا أن نتوقّع خطوة غير هذه، إذا كانت “القيادة الجديدة” للمصرف حريصة فعلًا على أموال المودعين وموجودات المصرف؟
بطبيعة الحال، لم يقم منصوري بهذه الخطوة. بل على العكس تمامًا، اتخذ منصوري مقاربة سلبيّة للغاية تجاه التحقيقات في ملف الحاكم السابق، عبر الاكتفاء بتأكيد “تعاونه مع القضاء” إزاء أي طلب يوجّه إليه. وبذلك، اكتفى منصوري برمي الكرة في ملعب التحقيقات القضائيّة، بدل أن يبادر بنفسه إلى فتح تحقيق داخلي يفضي إلى كشف جميع الحقائق، ويسمح للمصرف المركزي بملاحقة أمواله المشتبه باختلاسها، في محاكم لبنان وأوروبا.
على النحو نفسه، يغيب منصوري عن كل الفضائح التي تخرج تفاصيلها اليوم على صفحات الصحف ووسائل الإعلام، ومنها فضائح “أوبتيموم” و”سوفيل” وغيرها.
كان متوقّعًا أن يكون منصوري “إم الصبي”، بوصفه الحاكم بالإنابة. كان متوقّعًا أن يصارح منصوري اللبنانيين بطبيعة الحقائق التي يملكها، وأن يكشف أمام المودعين طبيعة التحقيقات التي يقوم بها لكشف خبايا هذه الشبهات. أمّا الأهم، فهو أن دور منصوري كان يقتضي أن يحرّك بنفسه الدعاوى والتحقيقات أمام الأجهزة القضائيّة، بدل التحفّظ وانتظار “طلبات التعاون” من المحاكم الأجنبيّة، في مسألة تخص أموال عامّة لبنانيّة!
لماذا لا يتحرّك إذًا وسيم منصوري؟ هل يكبّله ما يكبّل يوسف الخليل في وزارة الماليّة اليوم؟ أو ما كبّل غازي وزني في حكومة دياب بالأمس؟ هل يصمت منصوري، للسبب نفسه الذي دفع وزني لسحب الكابيتال كونترول عن طاولة الحكومة ذات يوم؟
إذا كان الأمر كذلك، فليصارحنا.