لم يكن فصل مشروع معالجة أوضاع المصارف عن إعادة التوازن إلى القطاع المالي، قرارا حكومياً عرضياً، بل كان مخطّطاً له على وقع إملاءات صندوق النقد الدولي.
فالفصل يعني أن النقاش في مسألة توزيع الخسائر، والتي تمثّل محور «إعادة التوازن إلى القطاع المالي»، مؤجّل. وهذا بالضبط ما تبلّغت به جمعية المصارف من وزير المال ياسين جابر، إذ قال لهم إن «موضوع قانون إعادة التوازن المالي صار بيد حاكم مصرف لبنان».
والأخير، ما يزال يتعرّف إلى المصرف المركزي، ولم يلتقِ أي طرف معني بهذا النقاش بعد. رغم ذلك، يتوقع أن تندلع اليوم معركة في لجنة المال والموازنة بشأن الخطوة الحكومية التي «تضع أموال المودعين في غياهب المجهول» كما عبّر النائب حسن فضل الله أمس.
على مدى السنوات الخمس الماضية أعدّت نسخ متعدّدة من المشاريع الرامية إلى التعامل مع الإفلاس المصرفي. تطوّر الأمر من خطّة أعدّتها «لازار» إلى لجان محلية بإشراف مستشارين في رئاسة الحكومة ووزراء المال وسواهم. خلص الأمر في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي إلى إعداد مشروع يجمع بين معالجة أوضاع المصارف وبين إعادة التوازن إلى القطاع المالي.
يقول مستشار ميقاتي، نقولا نحّاس، إن هذا المشروع أتى بعد نقاشات معمّقة مع صندوق النقد الدولي ومع الأطراف المعنية محلياً بهدف إعادة الثقة للقطاع المالي ومعالجة أوضاع المصارف وترتيب الفجوة المالية. لكن الحكومة الحالية، قرّرت أن تفصل الأمرين عن بعضهما البعض، لأن صندوق النقد الدولي طلب الإسراع في إظهار حسن النية ولو بإقرار قانون يعالج أوضاع المصارف بشكل منفصل عن إعادة التوازن للقطاع المالي.
إذاً، يعيش لبنان على وقع إملاءات صندوق النقد ومن يقف وراءه بمعزل عن أي نقاش فعلي في جدوى وأهداف أي خطة لمعالجة الإفلاس المصرفي. والأفرقاء المعنيون يكرّرون هذا الأمر بشكل متواصل على مسامع الجميع.
أمس في لقاء جمع بين وزير المال ياسين جابر ووفد جمعية المصارف، سأل أعضاء الجمعية عن مصير مشروع «إعادة التوازن إلى القطاع المالي» فأجابهم الوزير جابر بأن الموضوع صار بيد حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، مذكّراً إياهم بأن الهدف ليس قطع رؤوس المصارف، بل استعادة الثقة بالقطاع.
وفي الجلسة نفسها، قال مستشار الوزير، وهو الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمّود، إنه يترتب على المصارف ترتيب أوضاعها واستعادة ثقة الناس من أجل دفع الناس إلى التخلّي عن الكاش في المنازل وإيداعها في المصارف. وذكّرهم أيضاً بأن الأمر مطلوب من صندوق النقد الدولي.
فمن الواضح، أن اقتصاد الكاش، هو العقدة الأساسية لصندوق النقد الدولي ومن يقف وراءه. ولا يخفي هؤلاء قلقهم من استمرار اقتصاد الكاش باعتباره معبراً لأموال «غير شرعية» يديرها حزب الله.
لذا، المطلوب واضح، وهو القضاء على ظاهرة اقتصاد الكاش من أجل تجفيف منابع حزب الله، أو على الأقل منع وصوله إلى الأسواق.
عملياً، صندوق النقد وكل المطبّلين له في لبنان، لا يناقشون المسألة إلا من هذا الجانب، أي إن الجوانب الأكثر حساسية ودقّة مثل توزيع الخسائر أصبحت هامشية نسبياً.
وفي مكان آخر، وتحديداً في مجلس النواب، أطلق النائب حسن فضل الله تصريحاً عن مخاطر الفصل بين معالجة أوضاع المصارف وبين إعادة التوازن المالي. فالحكومة، كما قال أمس في تصريح يسبق انعقاد لجنة المال والموازنة لمناقشة مشروع معالجة أوضاع المصارف المحال من الحكومة، عليها «واجب تقديم مشروعها لمعالجة الفجوة المالية».
طبعاً، مشروع معالجة الفجوة المالية هو نفسه مشروع إعادة التوازن إلى القطاع المالي، وهو نفسه مشروع توزير الخسائر.
كل الأسماء تصبّ في نتيجة واحدة: الفصل «لا يقدِّم أي ضمانات لاستعادة أموال المودعين، بل يجعل مصيرها في غياهب المجهول، لأنّ الحكومة تريد فصل إصلاح المصارف عن إعادة الحقوق لأصحابها مع أنّ السبب الجوهري وراء مطلب هذا الإصلاح هو نتيجة إخلال المصارف بواجباتها، وعدم حفظها للأمانة التي وضعها في عهدتها المودعون».
لكن انتقادات فضل الله لا تقتصر على ذلك، بل تذهب أعمق في نقاش المشروع. في رأي فضل الله، فإن ما أحيل من الحكومة إلى المجلس النيابي «مصاب بعيب دستوري لأنه يخالف المادة 15 من الدستور التي تنصل على أن الملكية في حمى القانون، فلا يجوز نزع عن أحد ملكه إلا لأسباب المنفعة العامة في الأحوال المنصوص عليها في القانون، وبعد تعويضه منه تعويضاً عادلاً».
هذا التوصيف الدستوري، ينطبق تماماً على أموال المودعين التي تعدّ ملكاً خاصاً «لا يجوز للحكومة وضع تشريع لا يلتزم بحمايتها، أو يمكن أن يشكّل منفذاً للمصارف للتهرب من إعادتها، أو شطبها كليّاً أو جزئيّاً» وفقاً لفضل الله.
ويشير أيضاً إلى أن ربط تنفيذ مشروع معالجة أوضاع المصارف بإقرار قانون آخر منعدم الوجود (ينص المشروع على أن تطبيقه مرتبط بإقرار قانون معالجة الفجوة المالية الذي سيصدر لاحقاً)، هو عطب تشريعي. «إنَّ مثل هذا الربط يشكِّل سابقة في التشريع، فالحكومة تقترح على النواب إقرار قانون غير قابل للتطبيق، لأنَّها تعلّقه إلى حين تقديمها مشروعًا آخر، وهذه بدعة في التشريع لم يسبقها أحدٌ عليها».
يعتقد فضل الله أن الالتزام بحماية أموال المودعين والعمل على استعادتها من المصارف «هو المعبر الضروري لإقرار أي قانون يتعلق بإصلاح المصارف أو إعادة هيكلتها». بهذا المعنى، إعادة الهيكلة حصراً لا تصبّ في مصلحة المودعين.
تعيين نواب للحاكم ولجنة رقابة جديدة؟
قال أمس وزير المال ياسين جابر لوفد جمعية المصارف أثناء النقاش المتعلّق بقانون إعادة التوازن المالي الذي تطلق عليه السلطة اسم «قانون الفجوة المالية» إنه سيتم تعزيز مصرف لبنان لتمكينه من القيام بهذه المهمة من خلال تعيين نواب جدد لحاكم مصرف لبنان وتعيين لجنة جديدة للجنة الرقابة على المصارف. فولاية أعضاء لجنة الرقابة ونواب الحاكم تنتهي في 9 حزيران، وهناك أكثر من رواية عن وجود خلافات بشأن تجديد الولاية أو تعيين جديد.