فوضى المالية العامة والدولرة منذ الحرب… الليرة والعدالة الاجتماعية تدفعان الثمن

من الطبيعي أن يَصعب سَماع صوت العقل عند انفعال النفوس ويستحيل قراءة الأرقام وسط غبار الانهيار في لحظاته الأولى، خاصةً بالنسبة للجمهور الواسع الذي لم يكن يوماً مُضطراً الى متابعة معطيات الاقتصاد إن لم يكن أساساً من صلب اختصاصه… الى حين وجد نفسه يدفع الثمن من خلال انهيار عملته الوطنية ووقوعه ضحية سقوط العدالة الاجتماعية بنتيجتها… ومنعاً لاستغلال الغضب المُحِق للناس لتحميل المسؤولية بشكل مُجتزَأ لمرحلة معينة أو خيارات محددة أو أفرقاء من دون سواهم… لا بد من تشخيصٍ موضوعي لمسار فوضى المالية العامة التي بدأت تحديداً خلال الحرب اللبنانية وورَثتها فترة إعادة الإعمار ويتم دفع ثمنها بالنقد وبتفكّك النسيج الاقتصادي – الاجتماعي، خاصة بعد أن فرضَت الدَولرة الزاحفة نفسها بشكل حاد غير رسمي وغير قابل للرجوع عنه، بما يَسحق ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية تاركاً إيّاهم على هامش الحقوق الأساسية من الغذاء، السكن، العلم والصحة…

عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الموازنات تعاني عجزاً، باستثناء الأعوام 1971 و 1972 و1974 عشية اندلاع حرب 1975. ومنذ عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني عجزاً مالياً… أول غياب لقطع حسابات الموازنات العامة وحسابات المهمة كان بين عامَي 1979 و1993. وحديثاً، تكرّر الأمر بوقف قطع الحسابات المستمر منذ عام 2004 مع توقّف إقرر الموازنات طيلة 12 سنة بين عامي 2005 و2017… وما أتت موازنة عام 2017 إلا بفوضى احتساب النفقات والايرادات وتكاليف سلسلة الرتب والرواتب وسُبل تمويل إلّا لِتطفح كَيل الفوضى المالية المتمادية منذ الحرب.

أمّا سابقة اللجوء الى طباعة العملة الوطنية والضغط على المصرف المركزي لتمويل عجز الدول وما نتج عنه من تضخّم مفرط عام 1987 وهروب الناس عفوياً من الليرة اللبنانية واستبدالها بالدولار الأميركي في التسعير والدفع والادّخار على شكل دَولرة غير رسمية شبه شاملة، ولو غير مُعلنة، فكان أيضاً في السنة نفسها 1987 حين بلغت ذروة الدولرة 92% من مجموع الودائع… وتَمَسّك المواطنين بالمستوى المرتفع للدولرة بالاقتصاد، هو ما اضطر لبنان الى التخلي عن نظام سعر الصرف العائم الحر وتَبنّي الثبات الزاحف بين 1993 و1998 من التثبيت المتشدّد على سعر صرف 1507.5 منذ حينها، كَون نظام الصرف الذي تدعو له كل الأدبيات الاقتصادية في حال الدولرة المرتفعة الثابتة.

وفي الحرب نفسها عرف لبنان أولى تجاربه في ضرب العدالة الاجتماعية بين حاملي الدولار وذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية ونَسف الطبقة الوسطى، وهي أساس ديناميكية كل اقتصاد ومجتمع بكلّ ما تحمل من اجتهاد في العمل ونشاط في القطاعات وأصالة في الدفاع عن قيمة «أكل الخبز من عرق الجبين»… خلافاً لمفاهيم أصحاب الثروات المبنية على المضاربة والربح السريع بفرق العملة… وما ظَواهِر اليوم سوى تكرار مشاهد سابقة من المسار ولكن بأكثر شراسة نتيجة انغماس المصارف بتمويل انهيار القطاع العام وتدفيع الثمن للمودعين السابقين… مقابل استفادة المقترضين خاصة بالدولار!

يُخطئ ويبتعد عن الموضوعية العلمية كلّ من يُقارب المأزق المالي-النقدي المصرفي بشكل إستنسابي لفترة معينة: مثلاً اختيار البحث فقط بفترة ما بعد عام 1993 بغضّ النظر عن الخيارات الاقتصادية وكلفة إعادة الإعمار، أو منذ العام 2005 بالنظر حصراً للمشهد السياسي الجديد الذي تَبعَ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والضغوط المالية-النقدية التي رافقته، لا سيما منها إبقاء لبنان طيلة 12 سنة بدون إقرار موازنة وما نتج عنها من إغراق النظام المصرفي بتمويل الدولة، وتغطية ذلك بقرارات تخطّي سقف الانفاق العام مُصدّق عليها من مجلس النواب نَسَفت بنود قانون النقد والتسليف الذي كان يفترض أن يحفظ بالنصوص الحد الأدنى من استقلالية المصرف المركزي… كما يُخطئ من يحصر بحثه في الفترة التي ترجمت تدهور مؤشرات قدوم الانهيار منذ العام 2011 (في المالية العامة والدين العام/النمو الاقتصادي، وانقلاب ميزان المدفوعات واستنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية…) وتم تأجيله عام 2016 عبر شراء الوقت من خلال الهندسات المالية (لإعطاء فرصة إصلاح لم تحصل) حتى انفجر الوضع في خريف 2019.

في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت، المُتوجّب على الخزينة اللبنانية، يُعادل حوالى ثلاثة مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية. وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة من قبل مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من قبل الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجّبة في نهاية العام 1992 وبعد إضافة الفائدة المتجمّعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و2001 بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك زاد الدين بالدولار الأميركي بفِعل تَراكم الفوائد، ليصبح رصيد الدين العام حوالى ملياري دولار أميركي وليتخطى مجموع الدين المقوّم بالدولار حدود 22 مليار دولار.

إرتفع الدين العام إلى 7 مليارات دولار بحلول عام 1994، وهو ما يمثّل نموًا سنويًا بنسبة 67%. بين عامي 1993 و2001، اعتمدت الحكومة اللبنانية في البداية على الاقتراض الكبير من السوق المحلية. وقد شكّل الدين العام بالليرة اللبنانية في تلك المرحلة 81.3% من إجمالي الدين بشكل متوسط مع ارتفاع تكاليف الاقتراض نظراً لعامل المخاطرة.

وتمّ إجبار المصارف على الاكتتاب بسندات الخزينة حتى 60% من إلتزاماتها بالليرة اللبنانية، وخُفِّض المعدل إلى 40% عام 1994 ثم أُلغِي عام 1997.

أما عن ارتفاع معدّلات الفوائد على الاقتراض، فلا بد من لفت الانتباه الى جملة العوامل المؤثرة فيها، لا سيما «مخاطر البلد». كذلك ارتفاع الفوائد الاسمية مع ارتفاع التضخم كي يبقى معدل الفوائد الفعلية إيجابياً… فضلاً عن سعي الدولة في السنوات الأخيرة الى رفع الفوائد لاجتذاب الرساميل ثم العمل على توظيف جزء كبير منها في تمويل الدولة المديونية على شكل كرة ثلج، فضلاً عن رفع المصرف المركزي الأميركي معدلات الفائدة لعام 2017، كلّ ذلك زادَ الضغط على معدلات متوسطة الأجل.

عجوزات مؤسسة الكهرباء

كما ساهم تراكم العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان على مدى الفترة الممتدة من نهاية العام 1992 وحتى العام 2011، والذي اضطرت الخزينة اللبنانية إلى تغطيته وتسديده عن المؤسسة، بزيادة حجم الدين العام وخدمته إذ سجّلت مؤسسة كهرباء لبنان عجوزات مالية سنوية كانت تتراوح بين ما يوازي مليار ونصف الى ملياري دولار أميركي، ما عدا تراكم كلفة فوائد الديون عليها…

وفي عام 2018، أظهر تقرير قُدِّم إلى مجلس الوزراء عن أوضاع قطاع الكهرباء أنّ إجمالي العجز على مدى 26 عامًا بلغ 36 مليار دولار، منها 20.6 مليار ديون مؤسسة كهرباء لبنان، و 15.4 مليار فوائد متراكمة على هذا الدين…

كلفة القطاع العام من رواتب وأجور

وفي الانفاق الجاري الذي يسيطر على مجمل الموازنة العامة في لبنان، لا بد من التوقف عند حجم القطاع العام، وعدم تحقيق الاصلاح المالي والاداري فيه يُثقِل الخزينة حتى تخطّت كلفته ثلث الموازنة في حين لا تتجاوز حصته 10 الى 15% من الموازنة في مختلف بلدان العالم.

ومنذ عام 1993، بدأت تَتنامى الفجوة النمو الودائع بالعملات الأجنبية والأصول الخارجية للنظام المصرفي وأخذت تتسع تدريجاً. تم إنشاء غرفة المُقاصّة للشيكات بالدولار الأميركي بدءاً من عام 1994. وبعدها، تطوّرت الدولرة باتجاه أجهزة الصراف الآلي التي أخذت تمتلئ بالدولار الأميركي، خلافاً لما هي حال جميع البلدان التي تخشى التداول الورقي بالعملة الأجنبية واستخدامها لتبييض الأموال والمضاربة على العملة الوطنية في السوق السوداء… وأدى استخدام العملة كأداة دفع إلى تطوير منح قروض مصرفية للقطاع الخاص بالدولار الأميركي للسوق الداخلية ومنحها حتى لِمَن كان مَدخولهم بالليرة اللبنانية، بما في ذلك من مخاطر تقلّب سعر الصرف وعدم إمكانية السداد كما حصل بعد 2019 حتى تم السماح لهم بالتسديد بالليرة اللبنانية وعلى سعر الصرف الرسمي، وهذه خيارات تؤدي في جميع مصادرها الى خلق المزيد من النقد عن طريق «مضاعف الائتمان»… حيث يتبيّن أن الودائع كانت تتزايد بالدولار، وهي مجرّد تحويل ودائع من الليرة الى الدولار من دون غطاء دخول دولار فِعلي، وتحديداً مِن تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ عام 2011. وكذلك عمدت الدولة اللبنانية الى دولرة متنامية للدين العام بما في ذلك من مخاطر صعوبة التسديد، وتَوّجَهتها من خلال «الهندسات المالية» التي كان من أهدافها تخفيض وَهمي لخدمة الدين العام، لأنّ الفوائد على الأوروبوند أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية (بفِعل فرق عامل المخاطرة بين العملتين)، فضلاً عن محاولة تسويق الأوروبوند في الأسواق المالية الدولية.

تمّ الحفاظ على الستاتيكو طالما كان ميزان المدفوعات فائضًا. لكن منذ عام 2011 اتسعَت الفجوة بطريقة بارزة بين الودائع بالدولار الأميركي، التي كانت تتزايد بوتيرة متسارعة، والأصول الخارجية للنظام المصرفي التي بدأت في الانخفاض، ما قَلّل تدريجاً من القدرة على تلبية جميع طلبات سَحب ودائع العملاء بالعملة الأجنبية في عام 2019، وسَلّط الضوء على انهيار نظام 2019، فتَعَدّد سعر الصرف، ودخلَ البلد في دوامة سياسة الدعم ومن ثمة منصة «صيرفة»…

ومع بداية عام 2023 أصبح من الواضح تأقلم الاقتصاد مع الدولرة المرتفعة وانعدام العدالة الاجتماعية بعد الانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي في بلد يستورد قرابة 80%، حيث انقسم المجتمع الى ثلاث فئات:

• فئة تنخفض قوتها الشرائية كل يوم لأنّ دخلها حصري بالليرة اللبنانية. هؤلاء هم في الأساس موظفون في القطاع العام، يسحبون الآن رواتبهم بالدولار الأميركي عبر منصة «صيرفة» الي تم إنشاؤها لهذا الغرض، ما يسمح بالتحويل التلقائي لرواتبهم إلى الدولار الأميركي بسعر صرف أقل من سعر السوق، ولكن التي تكون قيمتها بالدولار الأميركي أقل بكثير مما كانت عليه قبل تشرين الأول 2019.

• فئة يتم الحفاظ على قوتها الشرائية إلى حد ما نظرًا لأنّ أقله جزءًا من مدخولها بالعملة الأجنبية.

• فئة تزداد قوتها الشرائية لأنّ كل دخلها بالعملات الأجنبية (معدل التضخم لا يزال أقل من معدّل تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية).

يبقى القول انّ الحكم استمرارية، والأزمات المتراكمة لها أسباب وتداعيات وأحياناً كثيرة نتائج يصعب الخروج منها (كما هي الحال تحديداً بالدولرة منذ الثمانينات).

اليوم، وبغياب الاصلاح المالي، تأقلم السوق نقدياً على دَولرة شبه شاملة غير رسمية لتسيير القطاعات… لكنّ التأقلم لا يغني عن ضرورة معالجة جوهر الأزمة والعناية بالفروقات الاجتماعية التي وَلّدتها وتفادي تكرارها…

مصدرالجمهورية - د. سهام رزق الله
المادة السابقةالسوق السوداء تبتلع السوق الشرعي.. الحكومة تغذي التهريب على حساب الخزينة!
المقالة القادمةإعادة إدراج لبنان على القائمة الرمادية ضربة قاضية لاقتصادنا