في ظل الأزمات المتتالية التي تعصف بلبنان، تبرز ظاهرة “تجار الأزمات”، الذين يستغلون الفوضى لتحقيق أرباح سريعة وغير شرعية. فوسط التدهور الاقتصادي، ومع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، تشهد الاسواق اللبناني موجة غير مسبوقة من ارتفاع الأسعار، تُثقل كاهل العائلات اللبنانية، وتجعل من تأمين الاحتياجات الأساسية أمرا شبه مستحيل.
وتتفاقم هذه الظاهرة في ظل غياب الرقابة والمحاسبة، وتبريرات متكررة من الجهات المسؤولة، مما يترك المواطنين في مواجهة مفتوحة مع جشع التجار.
“حيتان” واشد!
خلال الأزمات والحروب، تتعاظم استفادة التجار من الأوضاع السلبية. فبدون رقابة صارمة، تُرفع الأسعار بشكل غير منطقي، اذ يستغل هؤلاء حاجة الناس للمواد الأساسية، لتحقيق مكاسب سريعة وغير قانونية، تزيد هذه الممارسات من معاناة اللبنانيين، الذين يعيشون تحت ضغوط يومية متزايدة، في ظل تراجع حاد في مستوى المعيشة.
تصريحات النقابة تثير الجدل
وفي تصريحات اعتبرها البعض بعيدة عن الواقع، أكد رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية، هاني بحصلي أن “الأسعار مستقرة، وأن المواد الغذائية متوافرة بكثرة”. كما دعا إلى “عدم الهلع أو تخزين المواد الغذائية بكميات كبيرة”، مؤكداً أن “المخزون يكفي لأكثر من شهرين، طالما أن مرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري الدولي يعملان بشكل طبيعي”.
ورغم هذه التطمينات، يشهد المواطن اللبناني تصاعدا غير مسبوق في الأسعار، مما يجعل هذه الافادات محل جدل بين المواطنين.
التطمينات في مهب الحقيقة المرّة!
ورغم اقوال بحصلي المتكررة بأن “الأسعار مستقرة”، يبدو أن الواقع على الأرض مختلف تماما. اذ يؤكد المواطنون الذين التقيناهم في الأسواق، أن الأسعار تضاعفت في معظم المواد الغذائية الأساسية، مثل الزيت النباتي والأرز والحبوب.
وهذه الزيادات تضع الأسر اللبنانية في وضع صعب، وبينما تتضاعف الأسعار بشكل غير معهود، لا يزال مسؤولو النقابات مُصرّين على أن “العرض أكثر من الطلب” ولا داعي للقلق.
ماذا يقول المواطنون؟
قامت “الديار” بجولة على الأسواق للتحدث مع المواطنين. كان الإجماع واضحا على ان الأسعار ارتفعت بشكل جنوني. فقد قفز سعر الزيت النباتي ثلاث مرات، وشهدت المعلبات زيادات مشابهة. كما ان الخبز، الذي يعتبر مادة غذائية أساسية، لم يكن بمنأى عن هذه الارتفاعات، رغم تأكيدات المسؤولين لـ “الديار” باستمرار توافر هذه المادة بخاصة الطحين.
تجدر الإشارة الى انه عندما أدلى رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية بتصريح يؤكد فيه أن الأسعار لم ترتفع، أثار ذلك موجة من الانتقادات الحادة على وسائل التواصل الاجتماعي. فقد عبّر المواطنون عن استيائهم من هذا التصريح، متسائلين كيف يمكن أن يُنكر ارتفاع الأسعار، في وقت تعاني فيه الأسر من أعباء مادية متزايدة.
أحد المواطنين، الذي لم يتمكن من كتمان غضبه، قال: “كيف لم ترتفع الأسعار؟! لقد تضاعفت الأسعار ثلاث مرات! كيف يمكن لرئيس النقابة أن يتحدث بهذا الشكل بينما أراها بعيني في كل زيارة للسوبرماركت؟”.
تعكس هذه المشاعر الفوضى والقلق الذي يعيشه المواطن، إذ تبدو التصريحات الرسمية بعيدة عن الواقع، مما يزيد من انعدام الثقة في المؤسسات المسؤولة عن مراقبة الأسعار وحماية المستهلك.
المواطن يشتكي هل من يسمع انينه؟
من جهتها، توضح نائب رئيس جمعية حماية المستهلك الدكتورة ندى نعمة لـ “الديار”: “نحن نعيش حالة حرب، مما يعني أننا نرزح تحت وطأة الفوضى. ففي الأوقات العادية، كانت الأسعار تشهد ارتفاعات غير مبررة، وبالطبع تصلنا شكاوى بهذا الخصوص. ولكننا نركز حالياً خلال جولاتنا على توافر المواد الغذائية الأساسية، حيث نتلقى شكاوى عن فقدان بعض الأصناف، مما يدفعنا إلى النزول ميدانياً للتحقق من مدى صحة هذه التبليغات”.
وتؤكد “أن هناك طلباً كبيراً على المواد الغذائية في بعض المناطق، لا سيما تلك التي يتواجد فيها نازحون. ورغم الضغط الكبير على سوق السوبرماركت والمتاجر الكبرى، لم نلحظ فقدان أي سلعة ضرورية بشكل عام”.
هل يصلكم بلاغات عن زيادة الأسعار، تجيب نعمة: “بالتأكيد تضاعفت، إذ ينشط تجار الأزمات في مثل هذه الأوقات الحساسة ويستفيدون منها إلى أقصى الحدود”. وتشير الى “أن هذه المنتجات تمر عبر سلسلة من الأطراف المختلفة، وبالتالي هناك أكثر من طرف في السوق يمر من خلاله المنتج، قبل أن يصل إلى السوبرماركت ويعرض للبيع. ومن هنا يظهر تجار الأزمات بسرعة”.
وتختم “الناس بحاجة إلى الشراء، وهي بعيدة عن بيوتها ورزقها وأهلها، ولهذا أقول إننا نعيش حالياً في فوضى الحرب واستغلال المواطنين”.
الاحتكار والغياب الحكومي وراء الأزمة
من جهة أخرى، يرى خبراء الاقتصاد أن الأزمة ليست ناجمة عن الوضع السياسي والأمني، بل تعود أيضا الى استئثار التجار وغياب الرقابة الحكومية. ويوضح أستاذ اقتصاد في الجامعة اللبنانية لـ “الديار” أن “التفرّد بالتحكم بالسوق وغياب الدولة عن فرض تسعيرات عادلة، يعمقان الأزمة”.
في حين أكد خبير في تجارة المواد الغذائية أن “شلل الدولة يسمح للتجار بالسيطرة الكاملة على هذا القطاع دون مبرر اقتصادي حقيقي”.
الحلول تكمن في التدابير الحكومية
من جانبه، يؤكد مصدر وزاري مراقب لـ “الديار” “ضرورة تكثيف الرقابة، وتشديد العقوبات على التجار المخالفين، لأن التلاعب بالأسعار أصبح أكثر تفشيًا”، مضيفا أن “الحل يكمن في المتابعة المتواصلة، وإلا فإن الأزمة ستستمر في دفع المزيد من الأسر اللبنانية نحو الفقر والمعاناة، في ظل الاعتداءات “الإسرائيلية” المتمادية وتوسع دائرة الحرب”.
ويشير المصدر الى ان “لبنان يشهد في ظل الأزمات المتلاحقة حالة من الفوضى الاقتصادية، حيث يتجلى الخلل الكبير في أداء وزارة الاقتصاد، في عدم القيام بمهامها الإشرافية المطلوبة. وفي ظل حالة الحرب الراهنة، أصبح رفع الأسعار ظاهرة مستشرية طالت كل شيء، بدءا من المواد الغذائية الأساسية، وصولا إلى السلع الكمالية مثل الدخان والخضار وحتى النقل”.
ويكشف عن ان “التقارير تظهر أن التجار يستغلون الأزمات لزيادة الأسعار بشكل هستيري، دون رادع أو محاسبة. ورغم أن هناك نصوصا قانونية واضحة تمنح وزارة الاقتصاد صلاحيات للتدخل والتفتيش، فإنها لم تتخذ الخطوات اللازمة لتطبيقها. يترك هذا الوضع المواطنين في مواجهة مباشرة مع الاستغلال، مما يزيد من محنتهم ويضعهم في دائرة القلق الدائم حول تأمين احتياجاتهم اليومية”.
ويختم المصدر “إن عدم معاقبة التجار الذين يرفعون الأسعار في الأوقات الحرجة، يعكس تقاعساً واضحاً من الجهات المعنية، ويعزز من انعدام الثقة في المؤسسات الحكومية. يتوجب على وزارة الاقتصاد أن تقوم بدورها الفعال في حماية المستهلك ومراقبة الأسواق، خاصة في هذه الأوقات العصيبة، لضمان عدم تفاقم الأزمات الاقتصادية وزيادة الضغوط على المواطنين”.