كثير من المؤشرات المريبة تحوط بالنقاش الدائر حول الموازنة. صحيح انّ موازنة 2019 من المفترض ان تكون الموازنة الجديّة الاولى منذ العام 2005، باستثناء وحيد هو موازنة العام 2017 التي كانت أشبه بموازنة «رفع العتب» لأنها كافأت المخالفين والمتهرّبين من الضريبة ومنحتهم مزيداً من الاعفاءات الضريبية.
وصحيح أيضاً أنها «موازنة سيدر»، والتي يجب ان تحاكي جملة إصلاحات التزمها لبنان قبل إقرار هذا الاتفاق الذي يعوّل عليه اللبنانيون لإعادة تنشيط الحركة الاقتصادية وانتشاله من المستنقع الذي هو فيه.
وصحيح ايضاً أنّ موازنة 2019 من المفترض ان تشكّل حجر الاساس لمحاكاة الصورة المستقبلية للشرق الأوسط الجاري بناؤه على ركام التغييرات والتبدلات الهائلة التي شهدها الشرق الاوسط وسيشهدها. وهو ما يفسّر المتابعة الدائمة والمستمرة للعواصم الغربية وفي طليعتها باريس لتفاصيل صَوغ بنود الموازنة، والتي من المفترض ان تستتبعها «هجمة» ديبلوماسية وسياسية فرنسية بعد إقرار مجلس النواب للموازنة.
كل ذلك صحيح، لكن ثمة مسألة إضافية تتعلق بوجود «قُطَب» سياسية خبيثة تختبئ خلف سطور مشروع الموازنة الجاري إعداده.
منذ عام بالضبط، وبعد إعلان النتائج الصادمة للانتخابات النيابية وفق قانون جديد عجيب يمزج ما بين النسبية والاكثرية والتوزيع الطائفي، إنطلقت مرحلة محاربة الفساد، والتي دشّنها رسمياً الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله.
في البداية لم يؤخذ كلامه على محمل الجد، ووضعه كثيرون في إطار تسجيل المواقف بعدما أظهرت الساحات الانتخابية مؤشرات واضحة حول «سأم» الناخبين من القوى الحزبية، حتى ولو بدرجات متفاوتة.
أكثر الساحات اعتراضاً، على قواها الحزبية جاءت بالتدرّج: السنية ثم المسيحية فالدرزية وانتهاء بالشيعية.
لكنّ السيد نصرالله كرّر موقفه لاحقاً بما يشبه الالتزام العلني به، وهو في المقابل أرسل الى أقرب حلفائه، أي حركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، أنّ سلوكه الحكومي حول الملفات الاقتصادية سيكون منفصلاً عن تحالفاته السياسية و«على القطعة”.
جواب «عين التينة» كان أنّ وزراء حركة «أمل» سيصوّتون الى جانب وزراء «حزب الله» في الملفات المطروحة، أمّا «التيار الوطني الحر» فكان الجواب أنه يرحّب بالتنسيق وتبادل الملاحظات ودرسها من خلال القنوات الجانبية قبل طرح الملفات على مجلس الوزراء، وهو ما تُرجم لاحقاً في ملف الكهرباء.
يومها، جاء من يسأل الأمين العام لـ«حزب الله» اذا كان يُدرك فعلاً المغارة أو الدهليز الذي باشَر التوغّل فيه. ذلك أنه منذ قيام لبنان بدأت ذهنية تنمو في ركائز مفاهيم السلطة وتستند الى منطق المحاصصة والزبائنية السياسية.
وقد حاول الرئيس فؤاد شهاب بناء دولة المؤسسات الحقيقية والفعلية مستنداً الى سطوة الجيش في الداخل ووضع معادلة إقليمية مَرنة تسمح بحماية نظام حكمه من التدخلات الخارجية. لكنه أيقن لاحقاً أنّ منطق المحاصصة «السهل» والمغري أقوى من منطق المؤسسات الصارم، فآثر الابتعاد رافضاً بنحو قاطع استجابة الدعوات الى التجديد له.\
وللإنصاف فإنّ منطق المحاصصة والفساد في دولة ما قبل 1990 كان لا يقارن بما حلّ بدولة ما بعد «إتفاق الطائف»، حيث نما وبسرعة قياسية مفهوم «الفساد» بمباركة ومشاركة «الوصي» السوري الذي وجد في ذلك إفادة مادية وسياسية.
ومنذ سنة وحتى البدء بإعداد بنود الموازنة، كان العنوان العريض هو البدء بمحاربة الفساد. ووفق هذا المنطق وُلدت خطة الكهرباء بعد «ترشيقها» وتشحيل «زوائدها»، كمثل دمج المرحلة المؤقتة بالمرحلة الدائمة والتي تعني ضمناً وضع فكرة استئجار الدولة بواخر إضافية لإنتاج الكهرباء، والتي أثارت الجدل الواسع طوال السنوات الماضية.
لكن مع البدء بدراسة مشروع الموازنة، إنفجرت الامور دفعة واحدة وتحرّك الشارع وكادت ركائز البلد تنهار، ما استوجَب اجتماعاً ليلياً لأركان الحكم في لبنان.
ما لم يكن مفهوماً وما يزال كيف أنّ أفرقاء هذه الطبقة السياسية نفسها أقرّوا بتهور وأنانية انتخابية قبل مدة قصيرة سلسلة رواتب غير مدروسة، وزادوا الحمل عليها بتوظيفات تحاصصية بالآلاف، ثم جاؤوا بعد أشهر يتمسّكون بحسومات على رواتب القطاع العام. فالمنطق السليم يقول بمعاقبة من أقرّ هذه السلسلة غير المدروسة، وكل من شارك في التوظيفات الانتخابية، بإبعاده عن السلطة لا العكس، لكنّ الأكثر غرابة التسريبات «المتعمّدة» التي رافقت درس الموازنة بـ«الافشاء» عن إجراء حسم 15% من رواتب القطاع العام.
فحتى «الجاهل» يدرك انّ النتيجة ستؤدي الى ما يشبه الثورة في الشارع. وبالتالي فلماذا يريد المروّجون أو الداعون، لا فرق، لهذه التسريبات والدعوات الفوضى في الشارع؟
كذلك لماذا يريد هؤلاء إثارة نقمة العسكريين والجيش؟ وفي وجه مَن؟
واستتباعاً، لماذا تريد هذه الاطراف إثارة موظفي مصرف لبنان المركزي وبالتالي دفعهم الى التحرّك ومعه تحريك هواجس اللبنانيين ومخاوفهم من وضعهم المالي والنقدي؟
لا شك في أنّ «أطراف» صَوغ الموازنة يدركون جيداً عواقب كل إجراء وكل تسريبة إعلامية على الشارع، ما يدفع الى سؤال واحد: ماذا يريد هؤلاء من الفوضى؟
والأهم أنّ القوى السياسية المعنية تدرك جيداً أنّ مكامن الهدر والنزف الحقيقية لا تكمن هنا، بل في الموازنات الهائلة للوزارات الدسمة والتي، في المناسبة، أخذت الحَيّز الأكبر من مشوار ولادة الحكومة الطويل، إضافة الى الاملاك البحرية…
فطالما أنّ البلد «يحتضر» مالياً، فلماذا لا تكون موازنة طوارىء، او بمعنى أوضح موازنات الضرورة القصوى للوزارات، ولاسيما منها «الدسمة» بدلاً من اقتطاع الرواتب وتحريك الشارع؟
موازنة الطوارىء تعطي وفراً بالمليارات، بينما موازنة اقتطاع الرواتب حدودها مئات الملايين من الدولارات فقط. لكن الفارق أيضاً انّ موازنة الطوارئ تقلّص فساد السياسيين الى الحد الأدنى، بينما موازنة اقتطاع الرواتب تبقي على الفساد (الموزع مذهبياً وطائفياً) وتُشعِل الشارع.
والسؤال الاستطرادي هو: هل الهدف من إثارة الشارع والناس له علاقة بحماية الفساد فقط؟ أم أنّ له أهدافاً سياسية آتية من وراء الحدود وخلف البحار؟
الأرجح نعم، وهو يتناغم مع الصورة الكاملة لمنطقة الشرق الاوسط، وهو ما يفسّر ربما بعض العناوين السياسية المثيرة التي سادت فوضى الساحة اللبنانية أخيراً.