هناك مقولة فرنسية معروفة عن القطاع المصرفي، مفادها أنه اذا كانت المصارف تريد الحصول على ودائع كبيرة فيجب عليها تقديم قروض كبيرة.
وهناك مثل شعبي عن رجل أراد أن يستأجر غرفة، فطلب منه صاحب الفندق ايداع 100دولار للسماح له بمعاينتها. في هذه الأثناء، أتى نجار الى صاحب الفندق مطالباً اياه بدين له في ذمّته وهو عبارة عن 100 دولار فأعطاه المئة. ذهب النجار الى اللّحام لدفع دينه البالغ 100 دولار، فقصد اللحام بائعة هوى وأعطاها الـ100 دولار كدين لها. الأخيرة، بدورها، ذهبت الى صاحب الفندق لتدفع له 100 دولار ديناً سابقاً. صاحب الفندق أعاد الـ 100 دولار للرجل الذي لم تعجبه الغرفة وانصرف!
هذه القصة تبسيط لحال البلد: فالكل عليه ديون ولديه اموال لا يستطيع تحصيلها. واذا ضخّت المصارف الاموال في السوق لا بد ان تعود تلك الاموال اليها بطريقة او أخرى بعد ان تحلّ مشاكل الناس.
حتى صيف 2017، كانت مصارف لبنان الملاذ الاَمن للبنانيين، مقيمين ومغتربين، والعرب والاجانب، حتى ظهور الهندسة المالية وفوائدها الخيالية، عندما بدأ سباق الودائع رغم وجود نقابة للمصارف هي جمعية المصارف، ووجود حاكم لمصرف لبنان يقتضي عمله مراقبة المصارف. لكن الامور خرجت عن السيطرة. فما كان مفترضاً ان يكون مخصصاً لجلب الاموال من خارج لبنان (new fund) لايداعها في المصارف مقابل فوائد عالية جدّاً، تحايلت عليه المصارف، اولاً بتحويل أموال بعض المودعين لديها من لبنان الى الخارج ومن ثم تحويلها مجدداً الى لبنان لتظهر وكأنها اموال جديدة محولة من الخارج، وثانياً بتحوير مفهوم (new fund) لتصبح اموالاً منقولة من مصرف الى اَخر. فبدأت المصارف تضارب على بعضها بعضاً، وأخرجت ما في جعبتها من عروض واغراءات بفوائد عالية لاقناع العميل بنقل حسابه من بنك الى اَخر. وارتفعت فوائد الودائع من 5,5% على الدولار الى 10%،ومن 8% على الليرة الى 16%، وارتفعت معها فوائد الدين على الدولار الى 13% وعلى الليرة الى 20% تزامناً مع وقف «كفالات» وقروض الاسكان، مما ادى الى شلّ الاقتصاد، وزيادة الضغط على الليرة، وسحب 15 مليار دولار من الودائع الى الخارج، وارتفاع الفوائد على القروض القديمة، وارتفاع خدمة الدين. اما النتيجة للمصارف المضارِبة فكانت هبوطاً في الودائع. اذ ان اللبنانيين راحوا يسحبون ودائعهم من مصرف الى اَخر. ربحت مصارف بعض الودائع وخسرت أخرى غيرها، لكن كل المصارف خسرت الودائع التي أُرسلت الى الخارج.
كل عملية مشبوهة يجب ان يكون لها اخراج يصوّرها على انها ليست سوى عملية انقاذية. أبحر «فينيقيو» الالفية الثالثة، ومعهم مليارات من اموال المودعين لاستكشاف مناطق جديدة في عالم المال. بعضهم استثمر اموال مودعيه في شراء مصارف تركية، والبعض الاَخر اسس مصارف في سورية والعراق، ورهن احدهم اليورو بوند لشراء مصرف في اميركا… وعادوا بعدها الى ابيهم الروحيّ مفجوعين من خسائرهم. تحركت عاطفة الاب فاستعان بنظرية مكيافلي، وهي ان المصارف هرم متكامل اذا سقط واحد تلته الأخرى، ومن واجب الدولة حماية الهرم من السقوط، فكانت الهندسة المالية لتعويض خسائر المصارف على حساب خزينة الدولة. الكل صدّق المسرحية حتى كاتبها لنفاجأ اول السنة ان احد المصارف الذي خسر اكثر من ملياري دولار في تركيا فقط سنة 2018، حقق في السنة نفسها ارباحاً وصلت الى 600 مليون دولار. وإذ ساد الاعقاد بداية بأن هذه لا تعدو كونها «خبريات» لطمأنة المودعين، كانت المفاجأة بالمصرف يوزّع ٣ دولارات ارباحاً لكل سهم، اي حوالي 8% من قيمة السهم، لنكتشف عندها اننا لسنا سوى نعاج تتناتش الذئاب لحوم اطفالنا لزيادة ثرواتهم.
لا تفكرن يوماً ان وقف الفساد والهدر يكون بالشعارات والضرائب والتقشف، ان ذلك ليس الاّ كذباً على شعبٍ اقلّ ما يستحقه هو ان تولّى عليه هذه الطبقة الفاسدة.
محاربة الفساد تبدأ بتعليق المشانق وفتح السجون امام كل من ساهم بشكل مباشر او غير مباشر في ما وصلنا اليه. لا تطالبوا بالحلول، لا تطالبوا بالاصلاح، ولا بالتغيير، بل طالبوا بتعليق المشانق لمن دمّر اقتصادكم، وبعدها تأتي الحلول.