حلّت الذكرى الثانية لتوقيع الاتفاق بالأحرف الأولى على مستوى الموظفين مع بعثة صندوق النقد الدولي خلال احتفال أريد له ان يكون مميزاً في القصرالجمهوري قبل سبعة اشهر تقريبا على نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، في اعتباره من يرعى دستوريا اي اتفاق دولي وأممي. وكان لا بد يومها من إنجازٍ ما على أبواب الانتخابات النيابية في 15 أيار من العام نفسه. وعليه، ما الذي يمكن القول فيه بعد عامين؟
قبل ايام قليلة على الإعلان عن الإتفاق المبرم بين لبنان وبعثة صندوق النقد الدولي بالأحرف الأولى وعلى مستوى الموظفين، التقى عون في قصر بعبدا عصر 30 آذار 2022 رئيس البعثة ارنستو ريغو راميريز Ernesto Rigo Ramirez، لاستعراض المراحل الاخيرة التي قطعتها المفاوضات مع الحكومة اللبنانية والرؤية التي يملكها الصندوق للمساهمة في تخطي لبنان الازمة التي يعانيها.
يروي العارفون بأدق تفاصيل تلك المرحلة انه وبعدما اطلع عون من راميريز على نتائج الاتصالات الجارية مع الحكومة اللبنانية في موضوع «خطة التعافي المالي والاقتصادي»، تم تحديد 7 نيسان موعدا لتوقيعٍ أوّلي لمذكرة تفاهم مع الصندوق على اساس ان ما تحقق يعدّ انجازا في مرحلة افتقدت فيها الانجازات وارتفع منسوب القلق على حجم الأزمة التي ضربت البلاد. وكل ذلك بني على أساس وحجم ما تحقق من تقدم على مستوى المفاوضات التي من شأنها ان تتيح لاحقاً «توقيع العقد النهائي». ويومها طلب الصندوق التزام رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي ومجلس الوزراء، إنجاز الإصلاحات المطلوبة للخطة كاملة، ولا سيما منها إقرار قانون «الكابيتال كونترول» وإدخال تعديلات على قانون السرية المصرفية، وإعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي بما في ذلك مصرف لبنان، ليكون على مستوى معايير الحوكمة».وتأسيساً على ما تقدّم احتفل، بإشراف رئيس الجمهورية، بتوقيع الاتفاق بناء على الأسس المشار اليها بمشاركة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ونائبه سعادة الشامي، ووزيري المال يوسف الخليل، الاقتصاد والتجارة أمين سلام، ورئيس بعثة صندوق النقد الدولي وعدد من أعضائها والموظفين والمستشارين الكبار. وتعهد ميقاتي في بيان موثّق ومدروس بعناية باسم الحكومة اللبنانية بمجموعة من الإجراءات التي يمكن ان تترجم مضمون التفاهم وما يمكن ان يقود إليه من انفتاح دولي على لبنان بما يؤدي الى التعافي والإنقاذ.
فبعد توصيفه لمعاناة لبنان قال ميقاتي يومها: «انّ تراكمات أدت الى أزمة اقتصادية ومالية معقّدة كما الى عجز كبير في الميزان الخارجي وزيادة مضطردة في الدين العام، ممّا تسبّب بإضعاف النظام المالي وتقييد الودائع ووقوع الشعب اللبناني تحت وطأة أزمة غير مسبوقة. إضافة الى العوامل الداخلية، أتت جائحة كوفيد-19 ثم انفجار مرفأ بيروت، وأخيرا الازمة الأوكرانية لتضيف أعباء إضافية الى الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان». ولذلك اعتبر ميقاتي ان الازمة تتطلب «برنامجاً اصلاحياً شاملاً، أولاً لمعالجة التحديات المتراكمة، ومن ثم تحقيق الاستقرار الاقتصادي والمالي، وإرساء قواعد النمو المستدام والقوي». معتبرا ان هذا الأمر «يتطلب سياسات وإصلاحات فعالة لإنعاش الاقتصاد، اعادة بناء الثقة، والدعم الواسع من جميع الأطراف؛ كما يقتضي اعترافاً صريحاً بالخسائر الواقعة في النظام المالي والموافقة على طرق معالجتها».
وكذلك، اكد ميقاتي رسميا باسم رئيس الجمهورية «التزاماً راسخاً بالعمل على حلّ الأزمة ووضع لبنان على مسار النمو المستدام والمتوازن والشامل من خلال تطبيق إصلاحات بنيوية توطّد الإطار المؤسَّساتي، وتعالج أبرز مَواطن اختلال التوازن الاقتصادي والمالي الكلي، وتوسّع شبكة الأمان الاجتماعي للتخفيف من وطأة الأزمة على اللبنانيين لا سيما منهم الفئات الأكثر حاجة، وتنشيط حركة الاستثمار في البنى التحتية وإعادة الإعمار. واختتم بالاعلان عن «دعم رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، بقوة البرنامج الاصلاحي الاقتصادي الذي تقوم اللجنة الوزارية المكلفة من مجلس الوزراء بالتفاوض في شأن مندرجاته مع صندوق النقد الدولي. وسنتعاون بنحوٍ وثيق لضمان التطبيق السريع لكل الإجراءات المتفق عليها مع الصندوق، بما في ذلك إقرار التشريعات الضرورية، بالتعاون مع المجلس النيابي الكريم، الهادفة إلى إنجاح هذا البرنامج». مكررا «الالتزام الكامل باستمرار التعاون مع صندوق النقد الدولي من اجل اخراج لبنان من كبوته ووضعه على سكة التعافي والحل».
وبناء على ما تقدم وعلى وقع تلك الشعارات الكبرى التي رُفعت إبّان الاتفاق وقبله وبعده، تبدو الذكرى الثانية لتوقيع الإتفاق «حزينة» و«مقلقة» بعدما تبخرت مختلف الوعود والتعهدات التي قطعها المسؤولون على انفسهم وعجزت المؤسسات والسلطات الاجرائية والتنفيذية والتشريعية والمالية عن القيام بأيّ خطوة مما تعهدت به الى درجة افتقدت فيها البلاد اي إجراء يؤدي الى تنفيذ الأحرف الأولى من التفاهم.
وإن استعرضَ العارفون تفاصيل ما انتهى اليه الاتفاق يدركون انّ النقاط الاساسية التي تحدث عنها لم تترجم بعد، فلم يتم التوصّل الى توحيد سعر الصرف وبلغت خسائر تسديد القروض والديون على اساس الـ 1500 ليرة 25 مليار دولار تقريباً من مدّخرات المودعين. ولا انتهت الصيَغ التي وضعت بكثافة الى اعادة هيكلة المصارف على رغم من خطورة ما هو مطروح من «شطب الودائع» والتي تعد من أخطر المخالفات الدستورية. ولم يعد هناك حاجة لإقرار قانون «الكابيتال كونترول» الذي بقيت مشاريعه المتعددة رَهن مصالح معروفة المصدر والهدف قيد البحث في المجلس النيابي والحكومة من دون التوصّل الى ما اعتمد في كل دول العالم عند مواجهتها لأزمات أقلّ حِدة مما نعيشه.
والى هذه الفضائح المتصلة بكل اشكال خطط النهوض والتعافي التي لم تر النور، استكملت الجرائم المرتكبة بتعديلات محدودة على «السرية المصرفية» أفقدتها مبتغاها، وبسحب حصة لبنان من «وحدات السحب الخاصة» التي بلغت بعد إعادة تسييلها بالعملات الدولية نحو مليار و200 مليون دولار اميركي، وتم التفريط بها في قطاعات مختلفة تارة بالمصاريف الخاصة بدعم انتاج الطاقة وطوراً بتلك التي شملتها عمليات «الدعم» فتبخّرت. ولِمَن لم ينتبه للأمر فقد بدأت عملية احتساب الفوائد المترتبة على لبنان الذي سيكون مضطراً لردها متى استخدمت بفائدة 4،5%، لأنها في النتيجة دين يجب على لبنان ايفاؤه وليست هبة او ما يشبهها لبُعدها عن اي انجاز قد تحقق.
والى مسلسل الملاحظات هذه يبدو ان الاتفاق مع الصندوق في مرحلة الخطر الشديد مهما قيل إنه لن يلغيه بعدما أنهَته الوقائع. ولذلك، فإنّ إحياء الاتفاق في ذكراه السنوية الثانية لم يعد أمرا واردا في المدى المنظور ما لم تتحقق معجزة مفقودة الى اليوم. فالممثل المقيم لصندوق النقد في بيروت فريديريكو ليما انتقل الى البرتغال في مهمة اضافية، ولم يعد في مكتب بيروت سوى موظفتين اثنتين، وهذه مؤشرات لا يمكن الترحيب بها لِما لها من انعكاسات سلبية على العلاقة بين لبنان والصندوق ومن خلاله مع المجتمع الدولي في انتظار ما يقلب الصورة، وهو أمر شبه مستحيل.