يسبق نقاش الحدّ الأدنى للأجور أزمة انهيار سعر صرف الليرة. ففي زمن الاستقرار الاقتصادي والمالي والنقدي، لم يعبِّر الحد الأدنى للأجور عن طموحات الموظّفين والعمّال، واستمرَّ السجال بين العمّال وأصحاب العمل والدولة ممثَّلة بوزارة العمل، حول ما يفترض أن يكون عليه الحدّ الأدنى للأجور وقدرته الشرائية.
ومع انزلاق البلاد إلى هاوية انهيار القدرة الشرائية للعملة، وتأخُّر تصحيح الرواتب والأجور وتعديلها في الآونة الأخيرة مع رفع الحدّ الأدنى من 9 ملايين ليرة إلى 18 مليون ليرة، يبقى النقاش مفتوحاً حول الرواتب ودورها ووظيفتها الاجتماعية والاقتصادية. وهل المطلوب تصحيحٌ يستند إلى تغيُّر رقمي في مؤشِّرات اقتصادية كمعدّلات التضخّم وأسعار السلع والإيجارات… وما إلى ذلك، أم إلى أمور أخرى لها طابع الأمان الاجتماعي والصحّي والتربوي… وغيرها؟.
تعديل الحدّ الأدنى للأجور
قبل نحو 4 سنوات، كان الحد الأدنى للأجور المعمول به قانوناً، 675 ألف ليرة، أي 450 دولاراً. ولم يكن حينها هذا المبلغ مقبولاً من العمّال بطيب خاطر، كما أن معظم المؤسسات تدفع أجراً أعلى منه في الواقع، لكن يُسَجَّل ذلك الرقم في عقود العمل ليتحايَل أرباب العمل على القانون في ما يخصّ دفع التعويضات.
في ظل الأزمة، بات من الضروري تعديل الحدّ الأدنى للأجور، فكثُرَت الآراء حول الرقم الذي يفترض أن يستقرّ عليه الحدّ الأدنى ليضمن معيشة لائقة للعمال. وهذا الهاجس لا يقتصر على موظفي القطاع الخاص الخاضعين لقانون العمل، بل ينسحب أيضاً على موظفي الدولة في الإدارات والمؤسسات العامة، لأن القصد من تحديد الرواتب والأجور هو انعكاسها على قدرة العامل على الاستمرار بالحياة بمتطلّباتها وأبعادها المتشعّبة.
حين كان سعر صرف الليرة عند مستوى 1500 دولار، كانت النقابات العمالية تطالب بتعديل الحدّ الأدنى للأجور إلى مليون و200 ألف ليرة، أي إلى 800 دولار، قياساً إلى المؤشرات الاقتصادية السائدة. علماً أن البلد كان مستقرّاً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، ولا أزمات قطاعية فيه، سواء في المصارف أو الصناعة أو الزراعة.
واليوم، رفعت وزارة العمل الحدّ الأدنى للأجور إلى نحو 200 دولار، فيما المطلوب أعلى من ذلك، حتى بالنسبة لتأمين الحاجات الأساسية من السلة الغذائية. وهذا ما يتطابق مع مضمون المادة 44 من قانون العمل، والتي تنصّ على أنه “يجب أن يكون الحد الأدنى من الأجر كافياً ليسد حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته”. لكن هل يتطابق النصّ مع الواقع؟.
راتب لائق… لا تكديس أرقام
في ظل الانهيار المستمر “لم تتبلوَر بعد الصورة النهائية لما يفترض أن يكون عليه الراتب ليؤمِّن المتطلّبات المعيشية، ولذلك تبقى الأرقام مبهمة، سواء 200 أو 500 أو أكثر من ذلك من الدولارات”، وفق ما يقوله أستاذ التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الجامعة اللبنانية، علي كركي، الذي يشير في حديث لـ”المدن”، إلى التركيز على “ما سيشتريه وما يتخلّى عنه الأجير، وهل عليه العمل في وظيفة واحدة أو أكثر؟”. فذلك، برأيه، يساعد في وضع الرقم الأنسب للحدّ الأدنى للأجور.
لكن في جميع الأحوال “لا يمكن لمبلغ يتراوح بين 200 أو 500 دولار تأمين السلة الغذائية المتكاملة وتأمين الطبابة والتعليم وغيره”. بالإضافة إلى التركيز على نهاية الخدمة ومصير الموظفين حينها “فهل يغطّيه الضمان الاجتماعي والصناديق الضامنة الأخرى؟”. والإجابة عن هذه التساؤلات “تنتظر التموضُع وثبات الأمور، ولا يكفي وجود الاستقرار الحالي”. وبنظر كركي “علينا الانتظار عدّة سنوات لتظهر نتائج الأزمة الحقيقية”.
لا يجادل اثنان في أن أي إنسان يطمح لتعزيز قدرته الشرائية ومكانته الاجتماعية. ومن هنا، يبرز الدور الاجتماعي للرواتب والأجور. وبذلك، من غير المقبول لدى أغلب الموظّفين، الاكتفاء بمقاربة رقمية للحدّ الأدنى للأجور، بل يفترض الذهاب بعيداً نحو تمكين الحدّ الأدنى للأجور من لعب دور اجتماعي يحصِّن الأفراد والعائلات ويؤمِّن لهم القدرة على إشباع رغبات أعلى من الحاجات الفيزيولوجية الأساسية كالأكل والشرب والنوم… وما إلى ذلك. وهذا ما حفَّزَ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، على اعتماد مبلغ 800 دولار كمتوسّط للرواتب يُصَرَّح عنه للصندوق. الأمر الذي جعل الحدّ الأدنى الرسمي بحكم الميت، والرقم الأصحّ، هو ما يعترف به الضمان. ومع ذلك، بقي هناك مَن يطالب بمزيد من التعديل.
ومن هنا، يؤيِّد عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي صادق علوية “البحث عن راتب لائق وليس فقط عن حدّ أدنى للأجور”. وفي حديث لـ”المدن”، يبرِّر علوية رأيه بأن “الحدّ الأدنى للأجور يمكن الالتفاف عليه ضمن الاقتصاد الأسوَد السائد اليوم. إذ يمكن لربّ العمل أن لا يدفع للعامل الراتب المنصوص عليه قانوناً. فمهما رفعنا الحدّ الأدنى للأجور، سيبقى رب العمل هو المتحكِّم بالأجر”.
بالتوازي، فإن الأوضاع السياسية والاقتصادية في لبنان والمنطقة والعالم، ترجِّح ارتفاع الأسعار في أي لحظة، خصوصاً وأن طرق النقل البحرية مضطربة، ما يرفع مستوى مخاطر نقل البضائع، وبالتالي يرفع سعرها. وأي ارتفاع إضافي للأسعار، سيعنى امتصاص القدرة الشرائية للحدّ الأدنى للأجور، مهما ارتفعت قيمته الرقمية.
كذلك، للحدّ الأدنى للأجور، وفق علوية، انعكاسات على بعض الرسوم التي سيدفعها العامل نفسه، بحيث “سترتفع اشتراكات المضمونين المتقاعدين، واشتراكات الطلاب المضمونين واشتراكات السائقين العموميين والمخاتير وغيرهم، فضلاً عن ارتفاع قيمة بعض الغرامات، ومنها غرامات العنف الأسري التي تتراوح بين الحدّ الأدنى و10 أضعافه. وغرامات تخصيص وظائف لذوي الاحتياجات الخاصة التي تقدّر بضعفيّ الحدّ الأدنى”. كما أن التجار “ينتظرون أي مبرِّر لرفع الأسعار”.
ما يرتبط بالحدّ الأدنى للأجور من ارتفاع للأسعار والتفاف على القانون ونفوذ لأصحاب العمل وانحياز الدولة وبعض ممثّلي العمال لجهة أصحاب العمل، يوجِب البحث عن آلية جديدة لوضع الحدّ الأدنى للأجور. والأهم، لضمان قيمته الشرائية وتغطيته لاحتياجات الأسر، ليس فقط للأكل والشرب، وإنما للطبابة والتعليم والسكن والترفيه، أو سنكون أمام تعديلات إسمية لأرقام بلا قيمة فعلية على أرض الواقع.