بعد إنجاز مناقشة مشروع قانون رفع السريّة المصرفيّة، وإقراره في اللجان المشتركة النيابيّة تمهيدًا للتصويت عليه في الهيئة العامّة للمجلس، من المرتقب أن يعكف المجلس النيابي على مناقشة مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، أو ما بات يُعرف محليًا بقانون إعادة هيكلة القطاع. وتتوقّع أوساط الكتل النيابيّة أن يكون هذا القانون موضوع نقاش مضنٍ وطويل داخل لجان المجلس، نظرًا لتشعّب نطاقه وحساسيّة بنوده، بخلاف ما جرى في حالة مشروع قانون رفع السريّة المصرفيّة الذي –رغم حساسيّته- اقتصر على ثلاثة بنود مقتضبة تحدد آليّة ونطاق صلاحيّات رفع السريّة في ما يتعلق بمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف.
قبيل بدء المناقشات، حصلت “المدن” على وثيقة مكتوبة تلخّص تعليقات مصرف لبنان على مشروع القانون، وفق الصيغة التي جرت مناقشتها في الحكومة قبل إحالتها إلى البرلمان. مع الإشارة إلى أنّ مضامين هذا القانون -عند إقراره- لن تتعامل مع مسألة الفجوة الماليّة أو توزيع الخسائر المرتبطة بالأزمة الراهنة، حيث ستكون هذه الأمور من اختصاص قانون آخر تحت عنوان “الانتظام المالي”. أمّا قانون إصلاح أوضاع المصارف، موضوع البحث الراهن، فسيحدد صلاحيّات الهيئة المصرفيّة العليا ولجنة الرقابة على المصارف، وتركيبة الهيئة، وآليّات التصفية أو إصلاح وضع المصارف، وهو ما سيمثّل الإطار التنظيمي للتعامل مع أي أزمة مماثلة في المستقبل (وليس الأزمة الراهنة وحدها).
إقرار بأهميّة القانون
في مقدّمة الوثيقة المكتوبة، الموجّهة من المصرف المركزي إلى وزير الماليّة ياسين جابر، يقر المصرف بأهميّة إقرار هذا القانون. ويبدأ الحديث عن غياب النص الموحّد المختص “بمعالجة إعادة هيكلة المصارف“، لكون الإطار القانوني المعمول به ينطوي على أحكام متفرّقة موزّعة على عدّة قوانين، كتلك الواردة في القانونين الصادرين عام 1967 بعد أزمة إنترا، قانون إصلاح الوضع المصرفي الصادر العام 1991. ويبدو النص متماهيًا مع اتجاه الحكومة، التي فضّلت توزيع الصلاحيّات والمهام في إطار هذا القانون، وترك الجانب المرتبط بتوزيع المسؤوليّات (أي الخسائر) لقانون استثنائي آخر.
لكن رغم الإقرار بأهميّة هذا القانون، بدا أن مصرف لبنان متحفّظ على بعض نواحي منهجيّة العمل، التي اعتمدتها الحكومة. إذ تشير الوثيقة إلى أنّ المصرف كان يفضّل إقرار “القانون الاستثنائي”، أي توزيع الخسائر، قبل العودة وإقرار القانون موضوع البحث، أي إصلاح الوضع المصرفي.
ثم يبدو المصرف حريصًا على توصيف الأزمة في أكثر من مكان في الوثيقة بوصفها “أزمة نظاميّة”. وهو المصطلح التي تفضّل جمعيّة المصارف التركيز عليه، للتخفيف من ثقل مسؤوليّة إدارات المصارف في التورّط بمجازفات مكلفة، في مقابل التشديد على مسؤوليّة ثغرات النظام المالي القائم. مع الإشارة إلى أنّ هذا المصطلح، وبخلاف ما تسوّقه جمعيّة المصارف بإلحاح، لا يتعارض مع مبدأ مسؤوليّة المصارف وإداراتها عن سوء إدارة أموال المودعين. إذ يعني المصطلح ببساطة، بحسب تعريف صندوق النقد، تفاقم الأزمة لإحداث تأثير سلبي كبير على الاقتصاد الحقيقي، بمعزل عن أسباب الأزمة الأساسيّة.
ملاحظات مصرف لبنان
ملاحظات مصرف لبنان تناولت أولًا نفاذ القانون. حيث يتحفّظ المصرف على سريان القانون بمجرّد نشره في الجريدة الرسميّة، ويصرّ في المقابل على ربط تنفيذه بإقرار “قانون إعادة التوازن المالي”، الذي سيرعى عمليّة توزيع المسؤوليّات (الخسائر). ويبدو أن الحكومة أخذت بملاحظة المصرف المركزي، إذ تضمّنت الصيغة الأخيرة لمشروع القانون هذا المبدأ، الذي طالبت به أيضًا جمعيّة المصارف (لكونها تفضّل التفاوض على توزيع الخسائر، ومستقبل رساميلها ومصالح أصحابها، قبل تسليم المصرف المركزي ولجنة الرقابة الصلاحيّات المنصوص عنها في القانون).
في مكانٍ آخر، يرفض مصرف لبنان فكرة تطبيق القانون على فروع المصارف الأجنبيّة، العاملة في لبنان، لكون ذلك يتعارض مع مبدأ “وحدة الإفلاس”. بمعنى آخر، يرى المصرف المركزي استحالة تفليس فرع لمصرف أجنبي، وإعمال شروط التصفية عليه، إلا في حال إفلاس المصرف الأم في الخارج. أمّا في حال وقوع أزمة، كتلك الموجودة حاليًا، فيرى المصرف المركزي تحميل المصرف الأم (الأجنبي) مسؤوليّة إعادة رسملة فرعه في لبنان، بعد تحميل الفرع المحلّي نصيبه من الخسائر وفق تراتبيّة الحقوق المنصوص عليها في القانون.
في مكانٍ آخر، يتحفظ مصرف لبنان على مبدأ ضم رئيس لجنة الرقابة على المصارف إلى الهيئة المصرفيّة العليا، التي ستملك صلاحيّات اتخاذ قرار التصفية أو إصلاح الوضع، بناءً على توصيات اللجنة. ويبدو هنا أنّ مصرف لبنان تقاطع مجددًا مع جمعيّة المصارف، في تحفّظه على تركيبة الهيئة، وفق الصيغة المنصوص عنها في هذا القانون. مع الإشارة إلى أن القانون لا يلحظ تمثيل جمعيّة المصارف داخل الهيئة المصرفيّة العليا، وهو ما أثار اعتراض الجمعيّة بحسب مذكرة مكتوبة تم تعميمها على المصارف الأعضاء في الجمعيّة.
في جميع الحالات، لم تأخذ الحكومة هنا بطلبات المصرف المركزي وجمعيّة المصارف، وأبقت على الصيغة الأخيرة لمشروع القانون كما هي، لتتألّف الهيئة المصرفيّة العليا -بحسب هذه الصيغة- من الحاكم وأحد نوّابه وثلاثة خبراء يعيّنون من قبل الحكومة، بالإضافة إلى رئيس لجنة الرقابة على المصارف. وهذا ما يعطي الهيئة، بحسب هذا الطرح، استقلاليّة أكبر عن المصرف المركزي، بينما يندرج وجود رئيس لجنة الرقابة على المصارف داخل الهيئة في إطار تقديم رأى اللجنة عند اتخاذ القرار، بناءً على أعمال التدقيق التي تجريها.
سائر ملاحظات المصرف، ترتبط بتفضيله اختيار المقيمين المستقلين -لأوضاع المصارف- من بين أكبر 10 شركات تدقيق عالميّة، بالإضافة إلى تحفّظه على مبدأ بدء عمليّة إعادة الهيكلة بحسب تقييم مؤقت تجريه لجنة الرقابة، إذ يطالب بان تستند هذه العملية إلى التقييم النهائي الذي يعدّه المقيمون المستقلون. وفي الوقت نفسه، يرفض المصرف منحه صلاحيّة نقل ملكيّة أي مصرف إلى مصرف آخر، لكون “حق الملكيّة هو حق مكرّس بالدستور” (وهذا ما يتماهى أيضًا مع إلحاح اللوبي المصرفي على تقليص أي صلاحيّة يمكن أن تمس بملكيّة المصارف خلال عمليّة إعادة الهيكلة).
في النتيجة، أخذت الحكومة بجزء من هذه الملاحظات، في الصيغة الأخيرة لمشروع القانون، من دون أن تمس بجوهر الصلاحيّات التي تريد منحها للجنة الرقابة على المصارف، أو بالاستقلاليّة النسبيّة التي منحتها للهيئة المصرفيّة العليا. وبمعزل عن رأي الحكومة والمصرف المركزي، من الأكيد أنّ صيغة القانون الأخيرة ستكون خاضعة لنتائج المناقشات التي ستجري قريبًا، داخل اللجان النيابيّة، ثم في اللجان المشتركة، قبل التصويت الأخير على مشروع القانون في الهيئة العامّة للمجلس.