قانون اصلاح المصارف انقلاب مالي مُقَنَع وانقضاض على سلطة الحاكم و”المركزي”

تحت تأثير الضغط الخارجي المتعاظم والرغبة السياسية الداخلية الجامحة في اتجاه اثبات الحكومة السلامية قدرتها على الاصلاح، وبحثاً عن اصلاح ملموس يحمله وفد لبنان الى اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين في واشنطن الاسبوع المقبل علّه يفتح حنفية التمويل المقفلة بالشروط، استعجل مجلس الوزراء اقرار مشروع قانون إصلاح وضع المصارف في لبنان وأعادة تنظيمها في جلسة عقدها يوم السبت الماضي، وأحاله إلى المجلس النيابي، بموجب مرسوم .

ومع ان الحكومة ربطت سريان مفعول مواد المشروع إياه بإقرار قانون معالجة الفجوة المالية الذي يسمح بإعادة الانتظام المالي، ليلتحقا معاً بمشروع تعديلات قانون السرية المصرفية، الا ان نص القانون بالصيغة التي اقر فيها، يشكل بحسب خبراء ماليين ونقديين كارثة تحمل في مكنوناتها من الخطورة ما ينبئ بامكان اطلاق يد السلطة السياسية في مصرف لبنان المركزي واقحامه في أتون المصالح السياسية وتجاذباتها من خلال ادخال هيئة الرقابة والحكومة في صلب القرارات المصرفية، خلافاً للمرجو والمفترض ان يتمتع به المصرف المركزي من استقلالية لا يجوز المس بها، على غرار المعمول به في اعظم دول العالم من الولايات المتحدة الاميركية الى فرنسا وغيرها.

وفي السياق، تؤكد مصادر مالية رفيعة لـ”المركزية” إنّ النهج “الإصلاحي” الذي تدّعيه حكومة نواف سلام، وقد اتخذ من قانون إعادة هيكلة المصارف أولى محطاته، تبيّن في الواقع أنه انقضاض على السلطة وعملية مقايضة سياسية مفضوحة. فبدلاً من أن يكون هذا القانون وثيقة قانونية خالصة تُعنى بحالات الإفلاس المحتملة وإعادة هيكلة المؤسسات المالية، اختُزل إلى مشروع يهدف إلى نزع السلطة من مصرف لبنان وحاكمه، ونقلها إلى هيئة الرقابة على المصارف ورئيسها.

لماذا؟ لأن الحاكم ومصرف لبنان، كما يُقال، قد تهاونا خلال العقود الماضية في تطبيق القوانين والأنظمة، وكانا متساهلين مع المصارف والمصالح الخاصة. أليس هو الحاكم الذي عيّنه رفيق الحريري للمضيّ في سياسة تراكم الدين العام، والتي أدّت إلى تضخّم ميزانية الدولة إلى مستويات غير مسبوقة، تفوق الناتج المحلي الإجمالي بعدة أضعاف؟ وهذا الدين، الممَول في معظمه من ودائع الناس عبر المصارف، أليس هو ما ساعد الدولة والنخبة الحاكمة الفاسدة على إدارة البلاد بقبضة من حديد على مدى ثلاثين عاماً؟

ولكن، الآن وقد انتهت “الحفلة”، ولم تعد الدولة بحاجة إلى مصرف لبنان كمموّل دائم، وبدأت مرحلة جديدة تتعلق بـإعادة تشكيل القطاع المصرفي وتحديد من يبقى ومن يخرج، ومن يُسمح له بالدخول إلى السوق أو يُمنع، كان لا بد من تحويل مركز القرار. من مصرف لبنان، الذي يُفترض أن يكون الجهة التنظيمية والقضائية العليا في كل ما يخص الشأن المصرفي، إلى هيئة الرقابة على المصارف، التي أُعطيت صلاحيات تحقيقية، وأضيفت إليها الآن صلاحيات تقريرية في تحديد أهلية المصارف للبقاء أو الزوال.

وتضيف: تدّعي حكومة نواف سلام أن هذه “الإصلاحات” جاءت بناءً على طلب صندوق النقد الدولي. صحيح أن الصندوق يريد إصلاحات وقانوناً عصرياً يتماشى مع التحديات الراهنة، ويواكب الأزمة النظامية التي تعصف بالقطاع المصرفي، ولا شك أن القانونين 2/67 و110 بحاجة إلى تحديث وتعديل. لكن الصندوق لم يحدد من يجب أن تكون بيده سلطة القرار، ولم يوصِ بتقاسم الصلاحيات بين مصرف لبنان وهيئة الرقابة، ولا بتجاوز مبدأ فصل السلطات بين هيئة تحقيق وهيئة اتخاذ قرار.

من فرض هذا التغيير ليس صندوق النقد، بل حكومة نواف سلام التي رأت في اللحظة الراهنة “لحظة سنّية” سانحة للانقضاض على سلطة الحاكم والمصرف المركزي في لحظة ضعف أو فراغ في القرار السياسي. الهدف هو إنتاج “اتفاق طائف اقتصادي” جديد يُقصي مصرف لبنان عن مركز القرار والاستقلالية، ويُدخل هيئة الرقابة والحكومة (وزارات العدل والمالية والاقتصاد) في صلب كل قرار يُتخذ بشأن مستقبل القطاع المصرفي.

وتختم المصادر: إن استقلالية مصرف لبنان باتت على المحك، وهذه خطيئة كبرى. أما مصداقية حكومة نواف سلام فتهتز، وإن كانت هذه التفاصيل شكلية أمام ما هو أخطر: عودة المنظومة السياسية إلى ممارساتها القديمة، ومحاولتها تفكيك كل أركان النظام السابق واستبداله بفسيفساء سلطوية هجينة توزع الصلاحيات بين الطوائف، دون أن تحقق قانونًا أو عدالة أو نظامًا للمواطن.

ولكن، البرلمان سيقوم بتجريد هذا القانون من زخرفه وغلافه السياسي، وسيرى من خلال هذه المحاولة الرخيصة لتمرير مشروع قانون يخبّئ في أحشائه انقلابًا ماليًا مقنّعًا. البرلمان ذكي بما يكفي لتمرير القانون من دون مكوّنه السياسي، ودون الخضوع لضغوط من يسمّون أنفسهم “إصلاحيين”، الذين بدأوا يتهمون المجلس النيابي بالعرقلة والمحافظة المفرطة.

البرلمان والمراقبون العقلاء يعرفون الحقيقة، ونواف سلام، “الإصلاحي”، ينكشف شيئًا فشيئاً كحصان طروادة لفريق فؤاد السنيورة الذي يسعى للاستيلاء الكامل على السلطة والصلاحيات المصرفية، في لحظة ينشغل فيها اللبنانيون بالجنوب وبملف سلاح حزب الله.
فإذا كان عهد الرئيس جوزيف عون قادرًا على نزع سلاح الميليشيات بالطرق الدبلوماسية، فإن البرلمان في عهده قادر على منع هذه المافيا السياسية من التسلل إلى مواقع النفوذ عبر التشريع.

مصدرالمركزية
المادة السابقةشماس يستشهد بماسك… وينصَح: الأفضل عدم العودة إلى التعرفات الجمركية المرتفعة
المقالة القادمةمحطات أُنشئت ولم تعمل يوماً: «الإنماء والإعمار» أهدر مليار دولار على مشاريع الصرف الصحي