إنّه “مشروع قانون يرمي إلى إعادة التوازن للنظام المالي في لبنان”، كما يدل عنوانه بثقة، بغية “مُعالجة الفجوة الماليّة للنظام المصرفي في لبنان وتداعياته على المودعين”، كما تشير مادّته الأولى التي تحاول تحديد أهدافه. إنّها اللحظة الموعودة إذًا، بالنسبة إلى المودع الذي ينتظر خريطة طريق تشريعيّة ترسم مسار التعامل مع أزمة الودائع، عوضًا عن تعاميم مصرف لبنان وطلاسمها واستنسابيّة المصارف في تنفيذها. وفي المادّة الأولى أيضًا، يسخو القانون بما تيسّر من شعارات وعناوين ماليّة ألفها المودعون طوال الفترة الماضية: إعادة الثقة بالنظام المصرفي، إعادة الهيكلة، إعادة رسملة مصرف لبنان، إطفاء الخسائر، خدمة الاقتصاد الوطني.. و”ضمن الإمكانات المتاحة”!
لغة شعريّة فضفاضة
ما سيكتشفه القارئ لاحقًا، هو أن الكرم في الشعارات والعناوين الفضفاضة، مقابل الابتعاد عن تحديد الأهداف والأدوات والمعايير بشكل أوضح، هو سمة من سمات مشروع القانون، الذي يفترض أن يكون أوّل ما يكون قانونًا مصرفيًّا يتعامل مع مفاهيم وعمليّات ماليّة معقدّة، تستلزم الكثير من الحذر والتفصيل. فلندع الشعارات جانبًا، ولنسأل عن الشعراء الذين كتبوا مشروع القانون، طالما أنّ الحكومة لم تنعقد، ولم تكلّف لجنة وزاريّة بصياغته، ولم تناقشه حتّى.
منْ الشبح الذي وضع مسودّة مشروع القانون هذا إذًا؟ ولماذا لا تذكر مقدّمة المسودّة، بموجب إحالة رسميّة إلى مجلس الوزراء، هويّة الجهة التي تقترح الصيغة الأوليّة لمرسوم مشروع القانون؟
يصعب العثور على إجابة شافية، إلا أنّ الذهاب إلى خصائص الملف تشير إلى أنّ المستند كُتب على حواسيب بإسم “الدائرة القانونيّة”، ما يدفع إلى الاعتقاد باتصال المسودّة بالدائرة القانونيّة في مصرف لبنان. ولهذا السبب بالتحديد، يبدو من الواضح أن كل ما ورد في مشروع القانون لم يخرج من دائرة تصوّرات مصرف لبنان للحل، التي ألفها المودعون جيّدًا خلال المرحلة الماضية، ولم يخرج من نطاق مخيّلة حاكم مصرف لبنان الضحلة وأفكاره المعهودة. ولهذا السبب أيضًا، يبدو الهروب نحو العناوين والشعارات، طريقة لإبقاء هامش الحركة واسعًا لدى المصرف المركزي، بما يفضي إلى المضي قدمًا بالأدوات نفسها التي يتم التعامل بها مع المودعين.
التدقيق وإعادة رسملة مصرف لبنان
الدخول في مواد القانون لا تبشّر بالكثير من الخير. العمليّة بأسرها، ستستند إلى “تدقيق محاسبي لميزانيّة مصرف لبنان”، وبما “يراعي المعايير الدوليّة”، حسب مشروع القانون. لا تجيب المادّة الثانية من مسودّة مشروع القانون على الكثير من الأسئلة: من هو نطاق التدقيق وهدفه؟ وأي بنود في الميزانيّة يُفترض أن يتم تشريحها؟ من سيقوم بالتدقيق على أي حال؟ وكيف سيتم تعيين الجهة التي ستدقق؟ من هي الجهة الرسميّة المسؤولة عن متابعة التدقيق، وتوجيه الجهة التي تقوم بالتدقيق؟
كل هذا الغموض، يكتنف أهم جزء من مسار “إعادة التوازن للنظام المالي”، الذي يُفترض أن يتم على أساس معرفة مفصّلة بالأرقام الحقيقيّة، وعلى أساس توزيع واضح للمسؤوليّات، التي لا تأتي المادّة على ذكرها بالمناسبة، لا من قريب ولا من بعيد!
في جميع الحالات، ولإعادة تكوين رساميل مصرف لبنان، ستساهم الدولة بإعادة رسملة مصرفها المركزي، من خلال تقديم مبلغ قدره مليارين ونصف مليار دولار أميركي (ما يوازي 2.5 مرّات قيمة نفقات الميزانيّة العامّة السنويّة). كيف ستتم إعادة الرسملة؟ يجيب القانون “من خلال سندات ماليّة و/أو أي وسيلة أخرى يتم تحديدها بموجب مراسيم في مجلس الوزراء”.
المفارقة هنا، هي أن الدولة الممتنعة عن سداد سندات اليوروبوند منذ آذار 2020، والتي لم تبادر حتّى إلى مفاوضة حملة السندات منذ ذلك الوقت، تراهن اليوم على إصدار وبيع سندات بقيمة 2.5 مليار دولار، لرسملة مصرف مركزي “مكسور” على فجوة خسائر تتجاوز قيمتها 60 مليار دولار! مع الإشارة إلى أنّ مبلغ 2.5 مليار دولار، الذي تراهن مسودة مشروع القانون على تأمينه من السندات “أو أي وسيلة أخرى” (؟)، تتجاوز قيمته الفعليّة قيمة كل سندات اليوروبوند السوقيّة، التي فشل لبنان حتّى ببدء التفاوض عليها.
التعامل مع الودائع
هكذا، وبعد تأمين المليارين ونصف المليار بطريقة ما، سيتم “إطفاء العجز في رأسمال مصرف لبنان”، بالتوازي مع “معالجة الواقع الحالي للودائع المصرفيّة”، والذي يختص به قسم كامل من أقسام القانون. وفي أولى مواد هذا القسم، يشير القانون إلى أنّنا يجب أن ننتظر قانون منفصل، تحت مسمّى “قانون مُعالجة أوضاع المصارف في لبنان وإعادة تنظيمها”، لوضع معايير تصفية أو إعادة هيكلة المصارف القائمة. وبهذا المعنى، سيختص القانون الراهن بمسألة معالجة فجوة مصرف لبنان والودائع، فيما سيختص قانون “معالجة أوضاع المصارف” بالجانب المتصل بتنظيم عمليّة إعادة رسملة المصارف التجاريّة. وبذلك، سنكون قد فصّلنا “القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي” إلى قانونين مختلفين، من دون أي مسوّغ واضح.
سيكتشف المودع هنا هو أن القانون الراهن قد وسّع من نطاق “الودائع غير المؤهّلة”، التي لن يتم ضمان سدادها في المستقبل. هذه الودائع، لن تشمل فقط السيولة المتأتية من عمليّات تحويل من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأوّل 2019، بل ستشمل أي أموال ناتجة عن تحويلات أو شيكات “أو غيرها من العمليّات والأدوات” (؟). والعبارة الأخيرة وحدها كفيلة بأن تستطيل لائحة الودائع غير المضمونة إلى ما شاء الله…
هذا التصنيف بالتحديد، سرعان ما يذكّر القارئ بتصنيفات مصرف لبنان المعتمدة حاليًّا: الودائع التي نتجت عن تحويلات بين الحسابات المصرفيّة، والتي يتم سدادها عبر التعميم 151 بسعر صرف 8000 ليرة للدولار (سيسمّيها القانون ودائع غير مؤهلة). والودائع التي مازالت في الحساب نفسه منذ 17 تشرين الأوّل، والتي يتم سدادها بحسب التعميم 158 بدفعات نصفها بالدولار ونصفها بالليرة، بسعر صرف 12 ألف ليرة للدولار (سيصبح اسمها الودائع المؤهّلة).
من الناحية العمليّة سيضمن القانون كل وديعة “مؤهّلة” إلى حدود 100 ألف دولار، بدل 50 ألف دولار التي يضمنها التعميم 158 المعمول به اليوم للودائع المضمونة. ولمزيد من التطابق بين الوضع الراهن، وما يطرحه القانون، يشير القانون إلى إمكانيّة سداد جزء من دفعات الودائع المؤهلة بالليرة، بسعر صرف المنصّة، تمامًا كحال التعميم 158. مع الإشارة إلى أنّ التعميم 158 كان ربط الدفعات بالليرة بسعر صرف المنصّة، قبل أن تعمد المصارف إلى سدادها بسعر 12 ألف ليرة للدولار.
الطريف هنا، هو أنّ القانون الذي يفترض أن يضمن للمودع حقّه، يربط جزءاً من الدفعات (الدفعات بالليرة اللبنانيّة) بمنصّة لم يستند إنشاؤها إلى أي سند قانوني، ولا يوجد أي آليّة شفّافة تحكم عملها، ما يطرح السؤال عن جديّة القانون الراهن. وفي جميع الحالات، بالنسبة للودائع غير المؤهّلة، سيتم سدادها بأسعار صرف خاصّة، تقل عن سعر السوق، تمامًا كما يجري اليوم عبر التعميم 151، ما يؤكّد أن كل مضامين القانون لم تخرج من نطاق تصوّرات حاكم مصرف لبنان للمعالجة.
صندوق استرداد الودائع
ولتأبيد وتطبيع أزمة الودائع التي تتجاوز سقف الودائع المأهولة، تمامًا كالحال اليوم، تستحدث مسودّة مشروع القانون صندوق استرجاع الودائع، الذي نصّت عليه خطّة التعافي المالي. وتمامًا كما فعلت الخطّة، نص القانون على شروط غامضة وغريبة لتمويل الصندوق من إيرادات الدولة، منها تجاوز هذه الإيرادات معايير محددة (أي معايير؟)، ووصول الدين العام إلى أقلّ من المستوى المستهدف (بحسب من؟ وبأي نسبة من الناتج المحلّي؟)، والمحافظ على نفقات اجتماعيّة (بأي قدر؟).. باختصار، تُركت مسألة الصندوق غامضة وضبابيّة، ربما لمعرفة من صاغ المسودّة بعدم واقعيّة الفكرة، ولا جدواها من ناحية استراداد الودائع.
ببساطة، هدف الصندوق هو تأجيل التعامل مع فجوة الخسائر، وترك مسألة الودائع معلّقة عبر الصندوق حتّى إشعارٍ آخر، فيما سيُثقل الصندوق ميزانيّة الدولة وإمكانيّة النهوض الاقتصادي في حال تخصيص نسبة من إيراداتها لدفعات للصندوق. مع الإشارة إلى أنّ هذه الدفعات ستبقى دفعات رمزيّة لا تقدّم أو تؤخّر على مستوى سداد الودائع، بالنظر إلى الفارق الكبير بين نوعيّة واردات الدولة المقوّمة بالليرة اللبنانيّة، ونوعيّة الإلتزامات للمودعين المقومة بالدولار.
في النتيجة، لم يكن المطلوب من مسودّة مشروع القانون المطروح إلا تطبيع الأزمة المصرفيّة، وبحسب الآليّات الحاليّة المتبعة لمعالجتها: تمييز الودائع الصغيرة بين الودائع المؤهلة وغير المؤهلة، اعتماد أسعار صرف عبثيّة لسداد هذه الودائع (بنوعيها)، وتأجيل التعامل مع فجوة الخسائر عبر إحالة الودائع الكبيرة إلى صندوق استرجاع الودائع. أما أخطر ما في مسودّة مشروع القانون المطروح اليوم، فهو ما يحاك على مستوى المس بالأموال العامّة، ورهنها لعقود لتمويل صندوق لن يعيد الودائع يومًا.