قبل رحيل سلامة: الشعوذات الماليّة مستمرّة في مصرف لبنان

أصبح الجميع على تصالح مع فكرة استمرار حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، حتّى اللحظة، بإجراء الشعوذات والطلاسم المحاسبيّة في ميزانيّة المصرف المركزي، قبل أسابيع قليلة من مغادرته منصبه. لا أحد يعلم خلفيّات أو مبرّرات بعض القيود الماليّة الغريبة التي يقوم بها الحاكم الآن، والتي من شأنها أن تتلاعب بمليارات الدولارات من الخسائر، وتقذفها من جهة إلى جهة، لكنّ الأكيد هو أنّ ما يجري في هذه اللحظات في مصرف لبنان بات بعيدًا عن أي عرف أو معيار محاسبي طبيعي. والأكيد أيضًا، هو أن كل هذه اللألاعيب، التي تصل إلى حد التزوير الصريح، ستصب في خانة تحميل المال العام، أي عموم دافعي الضرائب، المزيد من الخسائر في المستقبل، تمامًا كما تطلب جمعيّة المصارف منذ بدء الانهيار.

في النتيجة، هذا ما يحصده اللبنانيون حين يستمر بإدارة المصرف المركزي متّهم ومدعى عليه بقضايا الاختلاس والتزوير والإثراء غير المشروع. وهذا ما ستحصده الدولة من قضاء محلّي يناور لحماية الحاكم في هذه القضايا، من الملاحقات الأوروبيّة، بدل أن تكون الأولويّة ملاحقة المال العام اللبناني المختلس. وهذا أيضًا ما سيكون عليه الحال، حين يصبح حاكم المصرف المركزي مضطرًا لمسايرة مصالح المصرفيين والسياسيين المحليّة، مقابل تكثيف الحماية القضائيّة التي يتمتّع بها.

دين جديد

في بدايات هذا الشهر، تبيّن أن سلامة خلق بندًا داخل الميزانيّة تحت مسمّى “صندوق استقرار سعر الصرف”، في جهة الموجودات، وقام بنقل جزء من قيمة بند “الموجودات الأخرى” إلى هذا الصندوق. كي لا نعقّد المسألة، التي بات يعرفها كثيرون اليوم، الموجودات الأخرى لم تكن موجودات فعليّة، بل هي مجرّد موجودات وهميّة اعتاد الحاكم على تسجيلها ومراكمتها، لتفادي الاعتراف بالخسائر التي أصابت موجوداته الفعليّة والحقيقيّة. بمعنى أوضح: الموجودات الأخرى هي مجرّد مبالغ خسرها مصرف لبنان في الماضي، فتم تسجيلها كموجودات وهميّة للإبقاء عليها في الميزانيّة وعدم التصريح عنها.

ما الهدف من نقل هذه الخسائر الأخرى إلى صندوق استقرار سعر الصرف؟ هو ببساطة، التمهيد لتحميل الحكومة اللبنانيّة كلفة هذه الخسائر، بوصفها أموال تبخّرت في سبيل تثبيت سعر الصرف. ومن هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم إشارة الميزانيّة للمادّة رقم 115 من قانون النقد والتسليف، التي تتحدّث عن حساب بإسم الخزينة اللبنانيّة، لتحميلها الخسائر الناتجة عن عمليّات بيع وشراء مصرف لبنان للعملات الأجنبيّة والذهب.

بصورة أوضح: هناك كتلة من الخسائر المصرفيّة، التي نتجت عن عمليّات مصرف لبنان المتبادلة مع المصارف، ومنها الهندسات الماليّة وما نتج عنها من أرباح فاحشة لأصحاب المصارف، ستصبح دينًا على الدولة، بموجب التزوير الذي يقوم به حاليًا حاكم مصرف لبنان في ميزانيّاته. مع الإشارة إلى أنّ التحجج بالمادّة 115 من قانون النقد والتسليف هو تحايل سخيف، لكون هذه المادّة ترتبط بخسائر يجب تدويرها ومعالجتها على نحو سنوي، وليس خسائر مشبوهة ناتجة عن عمليّات “بونزي” احتياليّة تمّت على مرّ أكثر من 23 سنة.

في جميع الحالات، في بداية الشهر، كانت قيمة هذا البند 41.03 مليار دولار، بعد أن نقل الحاكم كتلة ضخمة من خسائر “الموجودات الأخرى” إلى هذا البند. وعلى نحوٍ غير مفهوم، ارتفعت قيمة هذا البند يوم أمس، في الميزانيّة النصف شهريّة التي ينشرها مصرف لبنان، بنحو 1.2 مليار دولار أميركي، لتصبح قيمة البنك 42.24 مليار دولار.

باختصار، وبشخطة قلم، أضاف حاكم مصرف لبنان يوم أمس دينًا على الدولة بهذه القيمة، من دون أن يفهم أحد كيف ولماذا. أمّا الطريف في الموضوع، فهو إشارة الميزانيّة إلى المادّة 75 من قانون النقد والتسليف، التي تنص على تنسيق هذه الإجراءات مع وزير الماليّة، الغائب كليًّا اليوم عن السمع.

هدية سلامة: دين ب58.74 مليار دولار

الـ42.24 مليار دولار، التي تراكمت تحت هذا البند كدين على الدولة، ستُضاف إلى دين الـ16.5 مليار دولار، الذي أضافه مصرف لبنان كإلتزام على الدولة اللبنانيّة، مقابل كل عمليّات القطع التي كان يفترض أن يتم إجراءها لمصلحة الخزينة منذ العام 2007. وعلى هذا النحو، سيكون سلامة قد حمّل الميزانيّة العامّة، والأجيال المقبلة من اللبنانيين، إلتزامات بقيمة 58.74 مليار دولار، وهي تحديدًا خسائر المصرف المركزي التي كان يجب معالجتها في سياق عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بعد تدقيق الميزانيّات وتبيان مصدر الخسائر. ببساطة، ما يجري هو أكبر عمليّة نهب للمال العام في التاريخ الحديث، وبألاعيب محاسبيّة لا تخضع لأي منطق علمي أو مالي.

في مقابل النشاط الزائد في مصرف لبنان، يغيب كليًا النقاش حول الخطّة الماليّة التي كان من المفترض أن توزّع وتعالج الخسائر المصرفيّة، في ضوء تدقيق شفّاف ومتكامل في ميزانيّات المصرف المركزي، وعلى أساس تحديد واضح للمسؤوليّات. وهذا تحديدًا ما يجعل كل ما يجري جزء إضافي من خطّة الظل، البديلة عن الخطّة الشفّافة والمعلنة، والتي تعيد توزيع الخسائر وتحمّلها لعموم اللبنانيين، بعيدًا عن أي نقاش علني أو معايير عادلة. أمّا المستفيد كما بات واضحًا، فهو النخبة المصرفيّة والسياسيّة، المستفيدة حتّى اللحظة من إبعاد النافذين في النظام المالي من تحمّل نصيبهم من الخسائر، ومن عدم الكشف عن خبايا وأسرار المرحلة السابقة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالسوق تجاوز الفراغ الرئاسي.. والأنظار على مصير “صيرفة” والحاكمية
المقالة القادمةمعالجة الأزمة: القطاع الخاص يعرض إمكاناته ويتيه بوحول السياسة