قراءة في المشهد “النقديّ” في لبنان

الموضوع هو سعر الصرف الرسمي وليس التعميم الأساسي رقم 151.

تخلّت مكوّنات السلطة السياسية عن إدارة الأزمة الاقتصادية والماليّة التي عصفت بلبنان، وأعطت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة حرّية مطلقة في إدارة الأزمة، أو الأزمات. كان يعود تارة إلى المجلس المركزي لمصرف لبنان، وتارة أخرى كان يتفرّد بالقرار، وانصرف خلال سنوات الأزمة إلى تغطية فشل القطاع المصرفي في إدارة الأزمة (الجزء الذي يتعلّق به)، والتستّر على تخلّي السلطة عن اتّخاذ القرارات الضرورية والمطلوبه منها.

‏أبقى سلامة سعر الصرف على الـ 1,507 ليرات للدولار الواحد حتى شباط 2023. وقبل هذا التاريخ تفرّد بتحديد وتعديل سعر صرف السحوبات الاستثنائية من أرصدة الحسابات بالدولار المحلّي (من 4,000 إلى 8,000 إلى 15,000 ليرة للدولار الواحد)، وابتدع مصرف لبنان، نعم ابتدع، سعراً آخر أطلق عليه اسم “سعر منصّة صيرفة”، وأسعاراً أخرى كالدولار الجمركي وغيره.

عودة إلى المجلس النيابيّ

استوطنت المزاجية والاستنسابية والزبائنية في اعتماد سعر الصرف (سعر صرف لكلّ مناسبة) من دون وجود أيّ مبرّر اقتصادي لهذه التعدّدية بأسعار الدولار تحت سماء اقتصاد واحد. اليوم، بعد دولرة الجزء الذي يعود إلى القطاع الخاص من الاقتصاد اللبناني، واستقرار سوق القطع الأجنبي، والصراع على سعر صرف واحد يتمّ اعتماده في مشروع الموازنة العامّة لعام 2024، جاء دور مصرف ‏لبنان الأساسي:

1- التخلّي عن صلاحية تحديد سعر الصرف الرسمي وإعادتها إلى المجلس النيابي.
2- التوجّه نحو الحدّ من التعدّدية في سعر الصرف ليبقى فقط سعر الصرف الرسمي (أي لن يكون هناك سعر صرف مختلف تعتمده المصارف في تأمين السحوبات تحت أحكام التعميم الأساسي رقم 151 وآخر في السوق الموازي).

ينعكس هذا الواقع الجديد إيجاباً على أصحاب الودائع بالدولار المحلي لأنّه حتماً سوف تصبح السحوبات على سعر ‏الصرف الرسمي. ويبقى على مصرف لبنان عندها العودة إلى أداء دوره كسلطة نقدية:
– تأمين السيولة المطلوبة.
– إدارة الضغوطات التضخّمية.
– المحافظة على الاستقرار في سعر الصرف الذي قد يتغيّر بسبب السحوبات على السعر الجديد. وهذا يتطلّب من مصرف لبنان تحديد سقف للسحوبات النقدية من أرصدة الحسابات المكوّنة بالدولار المحلّي (الحسابات المعطوفة على توظيفات مثقلة بالمخاطر الائتمانية، توظيفات في ديون سيادية متعثّرة، وديون للقطاع الخاص تمّ تسديدها على سعر الـ 1,500 ليرة للدولار الواحد)، أو إقناع السلطة التشريعية بإقرار قانون الكابيتال كونترول. والمشكلة الحقيقية ‏هي غياب الإرادة لاتّخاذ القرارات الضرورية عند مكوّنات السلطة.

عندما تعذّر عليهم (على مكوّنات السلطة) تحديد سعر صرف واحد لاحتساب الإيرادات والنفقات في مشروع الموازنة العامة للعام 2024، سارع حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري وعدّل سعر الصرف الرسمي “الظلّ”، أي سعر منصة صيرفة، إلى 89,500 بعدما كان 85,500 ليرة. أي أنّه رفعه 4 آلاف ليرة. وبهذا يكون قد انتزع فتيل تفجير مشروع الموازنة بسبب عدم التوافق على سعر صرف واحد، وأجبر السلطة على احتضان هذا القرار واعتماده على أنّه سعر الصرف الرسمي.

ضربة معلّم.. والله العظيم يا وسيم

بهذا يكون مصرف لبنان قد حافظ على دوره، لسنوات عديدة، في تأمين التمويل للسلطة السياسية في فسادها، وإنقاذ هذه السلطة في فشلها.

يتوجّب على السلطة النقدية (مصرف لبنان) تأمين البيئة النقدية للعودة إلى اعتماد وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي (بطاقات دفع وائتمان وشيكات وتحويل و…)، وتمكين المصارف من العودة إلى تقديم هذه الخدمات. عندها يكون المودع قادراً على الحصول على “ما يحتاج” (وليس ما يشتهي أو يريد) من وديعته لتمويل فواتير الاستهلاك. والشيء ذاته ينطبق على المؤسّسات في تمويل المصاريف التشغيلية، ومنها توطين رواتب الموظفين وفواتير المورّدين في حسابات مصرفية. وتدريجياً تتحسّن الأوضاع.

العودة إلى المصارف (Bank Money instead of Cash Money) في الدفع (Payment System) تحدّ من حدوث ضغوطات تضخّمية نتيجة تعديل سعر الصرف الرسمي وتداعياته على سعر صرف السحوبات من الحسابات بالدولار المحلّي.

على مصرف لبنان أن يتصرّف كمصرف مركزي وسلطة نقدية وليس كموظف لدى السلطة السياسية أو غيرها.

 

مصدرأساس ميديا - د. محمد فحيلي
المادة السابقةأزمة الكهرباء في لبنان: حلول كثيرة تفتقد إلى قرار سياسي جامع
المقالة القادمة“البالات الأوروبيّة” تجتاح الأسواق اللبنانيّة وتنافس الألبسة الجديدة المستوردة