احتفل النائب إبراهيم كنعان بالعبارات الأخيرة، التي وردت في البيان الختامي لزيارة بعثة صندوق النقد. تلك العبارات الدبلوماسيّة، التي “تشكر السلطات اللبنانيّة” على “المناقشات البنّاءة والصريحة”، يتكرّر ذكرها إجمالًا في جميع بيانات الصندوق، من باب اللياقة والتهذيب، ليس إلا. يدرك ذلك كلّ من يتابع أخبار الصندوق وتصريحات مسؤوليه، وكل من يطالع في العادة بياناته المتصلة بالأزمة اللبنانيّة.
وحده رئيس لجنة المال والموازنة النيابيّة، وجد في تلك العبارة ما يستحق الابتهاج، بوصفها دلالة على موقفه “الصريح بموضوع الودائع”. تغريدة كنعان، التي أثارت الكثير من التهكّم على وسائل التواصل الاجتماعي، مثّلت الدلالة الأكثر تعبيرًا عن أحوال البلاد البائسة، وعن الطريقة المُستهترة التي يُدار بها ملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
يأس من مصير الاتفاق
بعيدًا عن شعارات المسؤولين اللبنانيين، لم يكن هناك ما يستحق الابتهاج في بيان بعثة الصندوق النقد يوم أمس الاول. في جميع سطور البيان، ثمّة إشارات واضحة تعبّر عن يأس البعثة من مستقبل تفاهمها المبدئي المتعثّر مع الحكومة اللبنانيّة، ومن إمكانيّة تنفيذ شروطه والانتقال إلى اتفاق نهائي على برنامج قرض.
ربما لهذا السبب، تخطّت البعثة الحديث عن ذلك التفاهم وشروطه، وكأنّ التفاهم بات في خبر كان. في المقابل، تركت البعثة الكرة في ملعب اللبنانيين، الذين صاروا يعرفون قواعد عمل الصندوق جيدًا: حين تصبح السلطات مستعدّة لإبداء الحد الأدنى من الجديّة، وحين يستعد اللبنانيون لتنفيذ الإصلاحات، يعود الكلام الجدّي من نقطة الصفر.
الكثير مما ورد في البيان لم يكن سوى إعادة تذكير بعدم وجود الإرادة السياسيّة للقيام بالإصلاحات المطلوبة من لبنان، ليتخطّي المحنة الاقتصاديّة التي يمر بها. كما أعاد البيان الإشارة إلى التداعيات التي سيتحمّلها الاقتصاد اللبناني لسنين مقبلة، جرّاء استمرار حالة المراوحة القائمة اليوم، وهو ما أشارت إليه سابقًا تقارير البنك الدولي، وتقرير مشاورات البعثة الرابعة الصادر عن الصندوق نفسه.
الصورة السوداويّة المتوقّعة، التي وصفها البيان الختامي، باتت معروفة لدى اللبنانيين: تزايد معدلات الفقر والبطالة، وتدهور أحوال البنية التحتيّة، وتهاوي الخدمات العامّة، مع زيادة الفوارق الطبقيّة في مستويات الدخل. هذا المشهد المُظلم، الذي وصفه البعض سابقًا بالعقد الضائع المقبل، هو كلفة المضي بالأزمة الراهنة من دون أي خطّة تعافي شاملة، وهو كلفة إصرار الطبقة السياسيّة على رفض إجراءات المعالجة التي تمس بمصالحها وحساباتها.
وبيان البعثة حذّر من الشعور بالرضا عن النفس، أو من الاعتقاد بأن الاقتصاد اللبناني في طريقه للتعافي، لمجرّد أن البلاد تمكّنت من تحسين مردود القطاع السياحي، خلال موسم الصيف الماضي. فهذا الموسم، وحتّى إذا أضفنا إليه دولارات المغتربين الواردة، غير قادر على التعويض عن عجز الميزان التجاري، أو عن فقدان التمويل الخارجي بفعل انعدام الثقة بالنظام المالي المحلّي. وبهذا الشكل، أعاد البيان التأكيد على تحذيرات البنك الدولي، الذي نبّه في تقاريره الأخيرة من اعتبار التأقلم مع الأزمة طريقًا للتعافي. أي بصورة أوضح: لا يمكن للبنان تجاهل ضرورة الإصلاحات الشاملة، والرهان على بعض التطوّرات الإيجابيّة للتكيّف مع الوضع الراهن وتجاوز الانهيار لاحقًا.
معايير إعادة الهيكلة المصارف
لكن بعيدًا عن توصيف المشهد العام، أشار البيان أيضًا إلى بعض المعطيات التي يُفترض أن يتم التوقّف عندها، لفهم أسباب عرقلة الاتفاق بين لبنان والصندوق، ومكامن التعارض بين شروط الصندوق ومصالح النخبتين الماليّة والسياسيّة في لبنان. ولعلّ أهم ما يمكن التوقّف عنده هنا، هو إشارة البيان الختامي إلى عدم وجود خطّة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي حتّى اللحظة، ودعوته لإعادة إرسال مشروع قانون إعادة الهيكلة من جديد بعد تعديله من قبل الحكومة.
بمعنى أوضح، كان البيان يشير بوضوح إلى عدم نضوج الاتفاق بين بعثة الصندوق والحكومة اللبنانيّة حول معايير إعادة الهيكلة، ما يؤكّد تحفظ البعثة على إدراج فكرة “صندوق استرداد الودائع” ضمن آخر مسودّات خطّة التعافي المالي التي أقرّتها الحكومة. مع الإشارة إلى أنّ الفكرة تقوم على تحميل الدولة مسؤوليّة سداد جزء من إلتزامات القطاع المصرفي للمودعين، من خلال صندوق يتم تغذيته لاحقًا من فوائض الميزانيّة العامّة، في حين أن الصندوق يتشدّد في رفض مبدأ تحميل المال العام كلفة إطفاء الخسائر المصرفيّة على هذا النحو.
كما كان متوقّعًا، احتفى النائب إبراهيم كنعان في تغريداته بهذا الجانب من البيان، إذ اعتبر أن بعثة الصندوق أكّدت هنا أن قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي لم يُنجز من جانب الحكومة أصلًا، ما يُبرء ذمّة لجنته من تهمة عرقلة الاتفاق مع الصندوق. وهنا مجددًا، أظهرت ردّة فعل كنعان أنّ أداء القيادات اللبنانيّة في ملف التفاوض مع صندوق النقد يغلب عليه طابع تقاذف المسؤوليّات والاتهامات، بين السلطات المختلفة، ما يبتعد جدًا عن الانسجام المطلوب بين السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، عند مقاربة هذا الملف الحسّاس.
في جميع الحالات، قد يكون من المناسب التذكير بأن المواقف التي عبّر عنها كنعان، بصفته رئيسًا للجنة المال والموازنة، وجورج عدوان، بصفته رئيسًا للجنة الإدارة والعدل، أمام بعثة الصندوق خلال جولتها، كانت أكثر تطرّفًا في وجه شروط التفاهم المبدئي الموقّع مع الصندوق، من خطة الحكومة نفسها، وتحديدًا من جهة إصرار كنعان وعدوان على مبدأ تحميل الدولة ودافعي الضرائب كلفة الخسائر المصرفيّة. لا بل من المعلوم أن الحكومة اضطرّت إلى إضافة فكرة صندوق استرداد الودائع إلى خطّتها، لتقريب الخطّة من مطالب اللوبي المصرفي الفاعل في المجلس النيابي (وعلى رأسه كنعان وعدوان)، للحؤول دون إسقاط الخطّة في المجلس كما حصل مع خطّة لازارد.
جميع الإصلاحات عالقة
عند مراجعة البيان الختامي، قد يكون من المفيد مراجعة موقف الصندوق من وضعيّة سائر الملفّات الماليّة والنقديّة، التي يتابع اللبنانيون أخبارها يوميًا من دون تقييم أثرها على مسار التعافي الشامل.
فعلى سبيل المثال، وبحسب البيان، لم تنسجم موازنة العام 2023 مع شروط الصندوق المنصوص عنها في الاتفاق مع لبنان، وتحديدًا من جهة توقيت إقرار الموازنة وشموليّتها. كما اعتبر البيان أنّ الموازنة غير واقعيّة، من جهة حجم العجز المقدّر فيها ومستوى التمويل النقدي المطلوب من مصرف لبنان لتغذيتها. وأشار البيان أيضًا إلى مجموعة من المتطلّبات التي ينبغي أن تتوفّر في موازنة العام 2024، التي أقرّها مؤخرًا مجلس الوزراء، كي تحقق شروط الصندوق، ومنها مسألة توحيد أسعار الصرف وتوسيع قاعدة الجباية الضريبيّة.
أمّا على مستوى مصرف لبنان، ورغم إشادة البيان ببعض خطوات الرئاسة الجديدة للمصرف، لم يفت البعثة التأكيد على بعض الشروط التي لم يتم تحقيقها بعد على مستوى السياسة النقديّة، مثل التخلّص من تعدديّة أسعار الصرف، واتخاذ إجراءات تصحيحيّة في ما يخص أطر حوكمة مصرف لبنان ومعاييره المحاسبيّة. كما طالبت البعثة بمعايير شفّافة بخصوص عمليّات القطع التي يجريها المصرف، في إشارة إلى آليّات العمل التي يتم تحضيرها لمنصّة بلومبيرغ حاليًا.
في النتيجة، تحوّل البيان الختامي إلى تعداد رتيب للإجراءات التصحيحيّة التي فشلت السلطات اللبنانية في القيام بها، وللتداعيات المتوقّعة جرّاء هذا الأمر، بدل أن تناقش البعثة مسار الاتفاق النهائي المنتظر. وعلى هذا الأساس، يمكن القول أن مسار الاتفاق انتهى من الناحية العمليّة، بوجود اتفاق عابر للاصطفافات السياسيّة المحليّة، يقضي بعدم تنفيذ شروط التفاهم المبدئي. فشروط هذا التفاهم، باتت ثقيلة على المصالح المتشابكة بين النظام السياسي والقطاع المالي، وخصوصًا في ما يخص معايير إعادة هيكلة القطاع المصرفي.