هل يفتح قرار الدولة اللبنانية بالتخلف عن سداد سندات اليوروبوندز الباب أمام تغيير اقتصادي حقيقي في البلاد؟ أم يخسر لبنان فرصته الأخيرة، عبر الخضوع لصندوق النقد الدولي وإعادة إنتاج النظام الحالي بصورة أكثر وحشيّة؟
يقف لبنان أمام مفصل تاريخي، مع قرار الدولة اللبنانية المنتظر إعلانه اليوم، بالتخلّف عن دفع سندات الدين «اليوروبوندز» المستحقة. وعلى الرغم من مرور لبنان طوال الـ100 عام الماضية باستحقاقات سياسية مفصليّة، إلّا أن المرحلة الجديدة التي تبدأ اليوم، لم يسبق للبلاد أن مرّت بها، في ظرف عالمي وإقليمي شديد الحرج.
قرار من هذا النوع، بلا شكّ، يحمل السلبيات والإيجابيات. وكما يحتمل المخاطر الكبيرة، فإنه يشكّل واحةً لفرصٍ كثيرة، احتاج اللبنانيون إلى قرن كامل للوصول إليها، ودفعوا ثمنها غياباً للدولة القوية وللعدالة الاجتماعية وفقراً وتهميشاً وتبعية، وغرقوا في أتون الصراعات الطائفية والمذهبية. وكما في السياسة – حيث تنعدم فرص نظام المحاصصة الطائفية في إنتاج أي أفق للمستقبل، وبات تغييره نحو دولة المواطنة الكاملة وتحقيق الاستقلال الحقيقي، شرطاً لأي تقدّم، فإن تغيير النظام الاقتصادي اللبناني النابع من رحم الانقسام الطائفي والتبعية للخارج، بات شرطاً أيضاً لإنقاذ لبنان.
من هنا، يبدو قرار الحكومة اليوم مفترق الطرق الخطير الذي تقف على أعتابه البلاد. فإما سلوك خيار الإنقاذ والبحث عن خيارات اقتصادية أخرى غير تلك التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من انهيار متسارع، وإمّا إضاعة الفرصة وإعادة تعويم النظام الاقتصادي الحالي بصيغٍ جديدة، أكثر شراسة في سحق الشعب وتعميق الفروق الطبقية والانقسامات الطائفية والمذهبية.
وخريطة الطريق لإعادة تعويم نظام التبعية والإفساد الاقتصادي واضحة ومرسومة في مسار الخضوع لصندوق النقد الدولي وتحميل المواطنين مسؤولية الخروج من أزمة مالية موقّتاً، والإبقاء على اقتصادٍ هشّ ومفكك ووطن مديون بأكمله.
أمّا الخيار الأول، خيار التغيير والإنقاذ، فيعني أننا أمام فرصة كبيرة لتغيير الواقع المفروض منذ عام 1920، في معادلة دقيقة هي ازدياد الفقراء فقراً وانسحاق الطبقة الوسطى ومراكمة الحيتان للأموال والممتلكات. وحدها الحرب الأهلية، ببالغ المفارقة، قلّصت الفوارق بين فئات الشعب، إلّا فطبقة خرجت من الحرب في نظام جديد قونَنَ الفساد وأغرق البلاد في مستنقع الديون الخارجية.
منذ سنوات طويلة، ونحن نعيش ونخضع لحلقة مفرغة من «لا نظام» اقتصادي، وفقد لبنان دوره الاقتصادي فيما حافظت قوّة المقاومة على موقعه السياسي، في محيط مأزوم سياسياً واقتصادياً وتاريخياً. وقوّة التغيير هنا، تعني كسر المحرّمات التي وضعت أمام لبنان منذ سايكس – بيكو، وتكرّست لاحقاً في محطات سياسية – اقتصادية عديدة، لعزل لبنان عن الشرق فيبقى ساحةً للنفوذ الغربي ونموذجاً للسيادة المرهونة للجوع.
عندما طرح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه خيار التوجّه نحو الشرق في سياق فتح الباب أمام خيارات بناء اقتصاد حقيقي، تكفّلت جوقة أبواق بعضها معروف الانتماء لكلّ ما فيه مصالح الأجنبي على حساب مصالح لبنان، بمهاجمة الخطاب وسُخرت المنابر والصفحات لتسطيحه والسخرية منه. لكن رغم ذلك، فإن البحث عن الخيارات البديلة مهمّة ضرورية، في صلبها التوجّه شرقاً بوضع التعاون الاقتصادي المتقدّم مع الصين وروسيا على الطاولة، بالتوازي مع التكامل الاقتصادي مع الحلقة الأقرب، أي سوريا، ومنها نحو العراق والأردن والحلقات الأوسع في الإقليم والعالم، على الأقل لتعويض ما خسره لبنان من فصل المصالح وشبه القطيعة الاقتصادية مع الجوار. وفي صلب الخيارات البديلة، إعادة تصحيح الخلل في العلاقة بين الدولة والمصارف، وكسر نموذج الاستدانة، وتفكيك الحماية الممنوحة لطبقة الـ1 في المئة من اللبنانيين الذين يحتكرون الثروة على حساب الـ99 في المئة.
بالأمس، أحسن السفير الفرنسي في بيروت برونو فوشيه بوصفه حكومة الرئيس حسان دياب بـ«حكومة الفرصة الأخيرة». لكن طبعاً ليس بهدف تجديد «ثقة» الغرب بلبنان كما يشتهي السفير، بما يعني الثقة بامتثال لبنان لإرادة هذا الغرب، إنّما لأن الفرصة أمام حكومة دياب تاريخية وربّما لن تتكرّر، في تصحيح أخطاء الماضي وصياغة علاقات مختلفة مع محيطنا والعالم، والبحث عن نموذج اقتصادي جديد، كما عن دور ينقذ البلاد من الفوضى والتفكّك.
تلوّح المصارف بإقفال أبوابها احتجاجاً على توقف الدولة عن سداد ديونها
لكنّ المعركة لخلق البدائل وفرض التغيير ليست بالبساطة التي يتسارع فيها الانهيار. فإعلان الحكومة التوقّف عن الدفع، بما يعني الذهاب لإعادة هيكلة الدين العام وليس فقط جدولته، يحتّم تضامناً سياسياً وشعبياً، في الوقت الذي ينقسم فيه لبنان إلى معسكرين، يشكّل عماد واحدٍ منهما حزب الله وحركة أمل. وإذا انعكس الانقسام على مرحلة ما بعد التخلّف عن الدفع، في ظلّ موازين القوى الحالية، فإن المعركة ستكون حامية. سيستعمل «حزب المصارف»، العابر للطوائف والانقسامات السياسية (وإن كانت كل 14 آذار معه من دون استثناء)، أشرس أسلحته للدفاع عن امتيازاته. ويلوّح عدد من أصحاب المصارف بإقفال أبواب البنوك، احتجاجاً على عدم دفع الدولة لديونها! ومرّة جديدة، لا يبدو موقف رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل واضحاً بعد قرار التخلف عن سداد الدين الذي أيداه. فهما، أول من أمس، في مسارعتهما لطلب تجميد قرار المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم، انحازا إلى «حزب المصارف»، فيما يردّد كثيرون من حولهما أنهما منحازان أيضاً إلى خيارات صندوق النقد الدولي، بذريعة أنها الخيار الوحيد المتاح.
وتتجه الأنظار صباح اليوم، إلى قصر بعبدا، حيث يسبق اجتماع الحكومة لقاء بين الرؤساء الثلاثة، بحضور حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عند الساعة 11، حيث سيناقش المجتمعون القرار الذي سيعلن عنه دياب الساعة 6:30 مساءً. وعلمت «الأخبار» أن البيان الذي سيشرح فيه لبنان موقفه من عدم الدفع، كُتب نصّه أول من أمس في السراي الحكومي، خلال اجتماع لرئيس الحكومة ومستشاريه الاقتصاديين ووزراء المال والاقتصاد والفريق الاقتصادي لرئيس الجمهورية.
وطوال يوم أمس، استمر الكباش الحامي بين الدولة والبنوك، لدفع البنوك على استرداد السندات التي «أجّرتها» لشركة «آشمور» في عملية ابتزاز واضحة بوضع لبنان تحت سيف الشركات الأجنبية. وعلى ما تردّد، أن المصارف شكّلت لجنة مصغّرة للتفاوض مع الدولة اللبنانية، بعد ليونة أبدتها عقب قرار المدّعي العام المالي للبحث في مسألة استعادة السندات. وبحسب المعلومات، فإن اللجنة مؤلّفة من رئيس جمعية المصارف سليم صفير ورئيسها السابق جوزف طربيه، والمصرفي أنطون صحناوي الذي يشار إليه بأنه مهندس بيع السندات لآشمور، والمصرفي سعد أزهري صاحب مصرف «بلوم بنك».