يوم أتى قرار وقف دعم استيراد المحروقات، تركّزت الحجج التي قدّمها مصرف لبنان على عدم جواز المس بما تبقى من احتياطات موجودة لديه بالعملات الأجنبيّة، لأنها باتت تقتصر على الاحتياطات الإلزاميّة التي فُرض على المصارف إيداعها لديه من أموال المودعين. وبما أن إيداع هذه السيولة فُرض لتكون ضمانة أخيرة للمودعين، لم يكن من الممكن – وفقًا لحجج المركزي يومها – حرق هذه الأموال لغايات أخرى، من قبيل استعمالها لتمويل استيراد البنزين والمازوت والقمح وغيرها. وهكذا ميّز مصرف لبنان بين دولارات المودعين التي أودعتها المصارف طوعًا، وأحرقت في مراحل سابقة، وبين الدولارات التي أُلزمت المصارف إيداعها كاحتياطات إلزاميّة، وصوّرها مصرف لبنان خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه أو المس به.
لكنّ هذه الحجّة التي رفِعت للخروج من مرحلة الدعم، لم تنسجم مع أداء المصرف المركزي في المراحل اللاحقة. وفقًا لأرقام مصرف لبنان نفسه، قارب حجم الودائع المتبقية في المصارف بالعملات الأجنبيّة حدود 101 مليار دولار في الشهر الأوّل من هذا العام، بينما يُفترض أن تحافظ المصارف على 14 بالمئة من هذه الأموال كاحتياطات إلزاميّة مودعة في مصرف لبنان. بهذا المعنى، لا يفترض أن يقل حجم الاحتياطات الإلزاميّة المودعة من المصارف في المصرف المركزي عن حدود 14 مليار دولار، بينما لا يجب أن يقل حجم السيولة المتبقية بالعملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان عن هذا الرقم، كي لا يتم تبديد قيمة هذه الاحتياطات الإلزاميّة المودعة لديه.
ومع الإشارة إلى أن حجم إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة يتجاوز أضعاف هذا الرقم، وهي إيداعات تم تبديدها من قبل المركزي في مراحل سابقة بأشكال مختلفة. إلا أنّ تمييز الاحتياطات الإلزاميّة عن تلك الإيداعات يأتي من باب تحديد قيمة السيولة التي يفترض أن يتم الحفاظ عليها في مصرف لبنان، لعدم تبديد هذه الاحتياطات، وفقًا لمنطق مصرف لبنان نفسه.
وفي مقابل 14 مليار دولار، يفترض الحفاظ عليها كاحتياطات إلزاميّة في مصرف لبنان، تشير ميزانيّة المصرف المركزي إلى أن ما تبقى من سيولة في حساباته بالعملة الأجنبيّة لا يتجاوز 11.58 مليار دولار. وهي قيمة ستتناقص إلى أقل من 8 مليار دولار قبل نهاية العام، إذا ما أخذنا بالاعتبار الالتزامات القصيرة الأجل المستحقة على مصرف لبنان. بمعنى آخر، وبحلول نهاية السنة، سيكون المركزي قد بدد نحو 6 مليار دولار من الاحتياطات الإلزاميّة التي أودعتها المصارف لديه، أي ما يقارب 43 بالمئة منها، من دون احتساب أي إنفاق إضافي يمكن أن يحصل من هذه الاحتياطات خلال الأشهر المقبلة. باختصار، وبخلاف القاعدة التي وضعها حاكم مصرف لبنان نفسه خلال مرحلة رفع الدعم، يجري تبديد الاحتياطات الإلزاميّة على قدم وساق.
مصادر مصرفيّة مواكبة لاجتماعات المجلس المركزي في مصرف لبنان، تشير إلى أن خطوة كبيرة من هذا النوع لا يمكن أن تحصل من دون ضوء أخضر سياسي واضح، يفتح الباب أمام الاستمرار بالإنفاق من الاحتياطات، بل ويحدد كيفيّة تبديد هذه الاحتياطات. وهذه المصادر، تعيد التذكير بالمداولات التي جرت بين وزير المال ورئاسة الحكومة وحاكم المصرف المركزي، قبيل اتخاذ قرار ضخ الدولار في السوق، في ما بدا غطاء رسميًا لهذه العمليّة التي تم تمويلها من الاحتياطات الإلزاميّة المتبقية نفسها.
في كل الحالات، من الناحية القانونيّة البحتة، وبخلاف التصنيف الذي اعتمده حاكم مصرف لبنان، لا يوجد ما يميّز بين حق المودع بالدولارات التي جرى إنفاقها منذ بداية الأزمة، من الأموال المودعة في مصرف لبنان، وتلك التي يتم تصنيفها كاحتياطات إلزاميّة. ففي الحالتين، من الأكيد أن أي إنفاق من هذه الدولارات يعني عمليًّا زيادة كتلة الخسائر المتراكمة في القطاع المالي، وبالتالي زيادة الخسارة التي يتم تحميلها للمودعين اليوم. لكن حساسيّة التطورات الأخيرة تكمن في اتجاه مصرف لبنان والسلطة السياسيّة إلى تبديد آخر ما تبقى من دولارات المودعين في مصرف لبنان، بغياب أي خطة أو رؤية ماليّة تبشّر بقرب معالجة أزمة القطاع المصرفي.