الغرق في “بحر” الظلمة دفع الكثيرين إلى التعلّق بـ”قشة” الفيول الايراني لتشغيل معامل الكهرباء. فالفيول المستقدم سيكون هبة، لن يكلف الدولة “فلساً”. وسيؤمن في المقابل الكهرباء، ويوفر على المواطنين كلفة المولدات الباهظة. فأي عاقل ممكن أن يرفض هذا العرض السخي وغير المسبوق؟!
فلنضع جانباً في البداية العائق الأساسي المتمثل بالعقوبات الاميركية على النفط الايراني، ونعود بالذاكرة إلى خريف العام 2021. فعلى وقع أزمة شح المحروقات ومشاكل فتح الاعتمادات آنذاك، تبرّع أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله باستقدام المازوت الايراني وتوزيعه مجاناً. وبالفعل بدأ منذ منتصف أيلول دخول المازوت الايراني بالصهاريج من سوريا عبر المعابر غير الشرعية، وقد استمرت العملية لغاية كانون الاول.
بيد أن الكميات التي أدخلت كانت هزيلة جداً بالمقارنة مع الحاجة، وهي لم توزع مجاناً، بل إن القسم الاكبر منها بيع بسعر أقل بـ10 في المئة فقط من سعر السوق السائد آنذاك. ففي حين كان سعر صفيحة المازوت في 20 تشرين الاول 2021 يبلغ 270700 ليرة، كانت محطات الامانة تبيع المازوت الايراني بـ 243700 ليرة. وهذا ما دفع إلى الاعتقاد بأن جزءاً كبيراً من المازوت المستقدم لم يكن إلا ذلك الذي هرّب إلى سوريا منذ العام 2020. وعليه حقق الحزب أرباحاً هائلة بدلاً من أن يكون قد تحمّل فرق السعر. مع العلم أن هذا المازوت لم تُجرَ جمركته كما لم تُدفع أي ضرائب ورسوم عليه كما يفرض على الشركات الخاصة الشرعية.
المازوت الإيراني مثال
في الوقت الذي تشير فيه المعطيات المتوافرة إلى ان مجموع ما جرى تقديمه في المرحلة الاولى، وهي الاكبر، من عملية توزيع المازوت الايراني بلغ 10 ملايين و350 ألف دولار، منها 2.6 مليون دولار فقط وزّعت كهبات، فان حاجة الكهرباء تبلغ على أقل تعديل 2.5 مليار دولار. “فهل تتحمل إيران المأزومة اقتصادياً مثل هذا الرقم كهبة؟ الجواب المنطقي هو لا”، بحسب مصدر نفطي متابع. و”أحسن ما يمكن تقديمه، إذا سلمنا جدلاً بامكانية المساعدة، قد يكون يشبه صفقة النفط العراقي. أي تبديل 500 ألف طن بالحد الاقصى من الفيول بخدمات.
وعليه لا يكون الفيول هبة، إنما صفقة تبادل تجاري على المستوى الرسمي بين الحكومة اللبنانية وبلد غارق بالعقوبات. وهو ما يختلف جوهرياً عن استقدام المازوت الايراني عبر سوريا للاستعمال الشخصي. فالبواخر الايرانية ستلقي مراسيها هذه المرة على الشواطئ اللبنانية وستفرغ الفيول في خزانات معامل الكهرباء التابعة للدولة. وبالتالي سترتب حكماً عقوبات اقتصادية على لبنان. إضافة إلى ذلك فان استقدام الفيول لمؤسسة الكهرباء سيقطع الطريق في حال حصوله أمام إتمام صفقة استيراد الكهرباء الاردنية، واستقدام الغاز المصري إلى معمل دير عمار اللذين ترعاهما الولايات المتحدة الاميركية. وسيعرقل أيضاً ملف ترسيم الحدود البحرية”. وبرأيه فان “الغرض من وراء هذا العرض السياسي لـ”حزب الله” هو تسجيل هدف جديد في مرمى عزل لبنان عن المجتمع الدولي، وإلحاقه بمحور الشرق المعاقب والمثقل بالمشاكل والازمات الاقتصادية، وبالتالي إحكام السيطرة أكثر على كل مفاصل البلد الحيوية”.
المشكلة ليست بالفيول فقط
هذا في الشق الجيو – سياسي العام، أمّاً تقنياً فان ما يطرح على أساس استقدام الفيول يشكّل استمراراً للنهج القائم الذي يحصر مشكلة الكهرباء في نقص الفيول، فيما “المشكلة أعمق بكثير”، بحسب الخبير النفطي شربل السكاف. و”هو ما يدل على غياب النية لمعالجة تداعيات الازمة الاقتصادية، التي تحتل الكهرباء حيزاً كبيراً منها. فما زلنا ندور في إطار الحلول الترقيعية التي تحول لبنان إلى بلد “للشحادة”، ولا تؤدي إلى حل المشكلة”. وبرأيه فان حل أزمة الكهرباء ليس “علم صواريخ”، وكل ما تتطلبه هو البدء بخطوات المعالجة الجدية التي تبدأ باعادة هيكلة مؤسسة الكهرباء وتعيين الهيئة الناظمة للقطاع، ومعالجة الهدر، وتحسين الجباية، وإشراك القطاع الخاص. فماذا ينفع استقدام الفيول من أينما كان إذا استمر الهدر ولا توجد جباية. وفي ما يتعلق بهبة الفيول الايراني تحديداً للكهرباء اعتبر السكاف أنها “سياسية اكثر منها اقتصادية”، تهدف إلى التسويق لخط الممانعة الذي يهمه إبراز امتلاكه أدوات اقتصادية ممكن أن تساعد حلفاءه. ولكن في نظرة سريعة يتبين أن هذا المحور الذي تقوده إيران امتداداً من العراق مروراً بسوريا ووصولاً إلى لبنان يعاني من أزمات جوهرية على مستوى الطاقة وهناك نقص هائل وعجز عن إمكانية توفيرها. وبالتالي فان كل الحدث هو عبارة عن “مراهنات ليست في مكانها”، من وجهة نظر السكاف.
العقوبات حتمية
أغرب ما في ردود الفعل على استعداد نصرالله لاستقدام الفيول الايراني مجاناً هو ترحيب وزير الطاقة وليد فياض بالخطوة، واعتبارها أحد الحلول لأزمة الكهرباء. وهو ما دفع بمصادر متابعة وضع الترحيب الرسمي في خانة ابتزاز اميركا. حيث يرون أن استقدام المازوت الايراني في أيلول العام الماضي دفع إلى اقتراح استجرار الكهرباء من الاردن والغاز من مصر. وهم يأملون أن يؤدي تبني الخطوة هذه المرة إلى تسريع تنفيذ الاتفاق. لكن ما يجهله المسؤولون اللبنانيون بحسب المصدر هو طريقة عمل الادارة الاميركية، التي قد تكون ردة فعلها على هذه الخطوة، في حال حصولها، شمول لبنان بالعقوبات ووقف كل اشكال المساعدات. فبحسب تغريدة لرئيس “منظمة جوستيسيا للإنماء وحقوق الإنسان” المحامي د. بول مرقص، يشير إلى أن “الامرالتنفيذي 13846 تاريخ 6 آب 2018 ينص على فرض عقوبات أميركية على كل من يقدم، عن علم، على الدخول بصفقات مع شركات النفط الايرانية ولو على سبيل الحيازة أو النقل او التسويق”.
قشة النفط الايراني التي يعول عليها بعض اللبنانيين للتخلص من جحيم العتمة، هي “قشة” مثقلة بالعقوبات، ونوايا الارتهان السياسي، والفوضى. الامر الذي يجعل منها قشة ثقيلة “ستقصم ظهر” الاقتصاد المثقل بكل أنواع الازمات، ولن تنقذه من العتمة.