تعقد الأمم المتحدة، منذ أول من أمس، قمة في روما لمعالجة مشكلات النظام الغذائي في العالم على وقع زيادة الجوع والمجاعة، وأثر الحرب الروسية – الأوكرانية شبه العالمية على تصدير الحبوب وزيادة الأسعار. وتفيد أرقام الأمم المتحدة بأن 122 مليون شخص إضافيين عانوا من الجوع المزمن في السنوات الثلاث الماضية، ما يشير إلى فشل الجهود العالمية للحدّ من الجوع، وإلى فشل كل البرامج الدولية ذات الصلة، وفشل الأنظمة السياسية والاقتصادية في معالجة هذه الآفات… ما يحتّم إعادة النظر في ما يسمى النظام الدولي.
يأتي هذا الإعلان عن زيادة الجوع مع تزايد الكوارث المناخية الخطيرة التي تتسبب بزيادة حرارة الأرض والحرائق والوفيات بسبب الحرارة، إضافة إلى الآثار المدمرة للفيضانات والأعاصير والجفاف… ما يحتم أيضاً البحث عن حلول استثنائية تربط بين السياسة والاقتصاد والتنمية وزيادة السكان، وعن نموذج حضاري جديد، يحمل قيماً جديدة ورؤية مختلفة للإنسان ودوره في الطبيعة، تُعيد تقييم نفسه وحياته مع حياة بقية الكائنات ضمن منظومة قيم جديدة تزحزح الإنسان (المتفوق والمتعالي) عن لعب دور المركز الذي يدور حوله كل شيء في هذا الكون الفسيح.
الاستمرار في المقارنة بين عالم «الوفرة» في مكان والموت من الجوع في مكان آخر لم تعد ذات معنى. ولم يعد مقنعاً تحميل الحروب ومن خلفها مسؤولية رفع أسعار المواد الغذائية فيما يجري التستر على احتكارات واستثمارات كبريات شركات الغذاء العالمية وأطماع شركات الأسلحة ومصالحها. كما لم يعد مجدياً للدول النامية أن تسعى إلى تقليد النموذج الغربي، وإلى المزيد من الاستدانة من البنوك الدولية لحل مشكلاتها. ولم يعد ذا معنى الحديث عمّا يقارب مليار جائع في وقت يهدر نحو ثلث كمية الطعام في العالم أو يتعرض للتلف، ولا المقارنة بين نقص وزن الشعوب بسبب الجوع في مكان وزيادة وزن شعوب أخرى من التخمة في مكان آخر لتحريك الضمائر والدفع إلى تقديم إعانات يمكن أن تفاقم المشكلات بدل أن تحلها. كما لم يعد تخصيص مبالغ إضافية للاستثمار في أنظمة غذائية أكثر إنتاجية واستدامة في كل أنحاء العالم ذا جدوى، ولا المراهنة على تطوير تقنيات الري أو انتقاء البذور أو تعديلها جينيّاً لحل مشكلات التنمية ومحاربة الفقر. فـ «التقدم» التقني زاد ثروات الشركات المنتجة ولوّث التربة والمياه ورفع نسب الفقر والجوع ولم يخدم إلا رأس المال المستثمر في القطاعات ذات الصلة. لا بل إن بعض التقنيات الجديدة التي حملت اسم «الثورة الزراعية الثالثة»، كالتعديلات الجينيّة على البذور بذريعة إكسابها مناعة ضد الآفات الزراعية وزيادة الإنتاج ومحاربة نقص الغذاء والفقر، وترافقت مع وضع الشركات المنتجة خاصية الانتحار فيها ليعود إليها المزارع كل سنة (خلافاً للعادات الزراعية القديمة التي كانت تحفظ البذار من سنة إلى أخرى)… تسببت هذه التقنيات الجديدة أو «الهندسة الجينيّة» بنقل خاصية الانتحار إلى النباتات البرية، وأدّت إلى انقراضها والأضرار بكل النظم البيئية، فزادت ثروات الشركات وزاد الجوع والفقر!
استنفد المشاركون في هذه القمة وفي القمم السابقة المماثلة أنفسهم، ولا سيما وكالات الأغذية الثلاث التابعة للأمم المتحدة والتي تتخذ من روما مقراً لها، أي منظمة الأغذية والزراعة (فاو) والصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) وبرنامج الأغذية العالمي، والحكومات والدول التي تدور في فلكها وتستخدم مصطلحاتها وتسوق لمنتجاتها وسلعها الفكرية والمادية والتقنية. ولم تعد توصياتها التي تدعو إلى تحولات جذرية في طريقة إنتاج الغذاء والدعوة لتخصيص أموال لمساعدة البلدان النامية على القيام باستثمارات طويلة الأجل لنظم غذائية أفضل… ذات جدوى، في وقت تبلغ عائدات الصناعات الغذائية 10 تريليونات دولار سنوياً (حسب أرقام الأمم المتحدة)، وتفوق موازنات بعض الشركات الغذائية العالمية (مثل نستله) موازنات دول، وقد سمحت لنفسها بوضع يدها على أهم الموارد حول العالم، ونجحت في مراكمة الثروات بينما خسر التنوع البيولوجي والإرث العالمي، ولم تحل مشكلات الجوع.
ينعقد اجتماع روما قبل القمة التي ستعقد في نيويورك في أيلول المقبل لفحص مدى التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وهي أيضاً ستكتشف مدى الإخفاقات التي لا تزال تسجل منذ قمة الريو التي عقدت عام 1992، بعدما ثبت أنه لا يمكن التوفيق بين نموذج التنمية الغربية وفكرة الاستدامة، وأن المطلوب إعادة نظر جذرية بمشاريع التنمية واقتصاد السوق المسيطر والقائم على المنافسة، التي باتت تعني تدمير الكوكب، إن على مستوى تلويث التربة وضرب التنوع البيولوجي أو على مستوى تغير المناخ والتسبب بكوارث باتت تطيح بكل مكتسبات التنمية التي عرفتها البشرية. فليس المطلوب المزيد من التمويل ولا المزيد من الإعانات ولا المزيد من التسول، بل التراجع عن هذا النموذج الحضاري المسيطر.