قيادة مصرف لبنان بعد سلامة… المهمة المستحيلة

مطلوب حاكم بنك مركزي للمساعدة في إعادة ضبط النظام المالي الذي انهار تحت أعباء عقود من الفساد وسوء الإدارة، في بلد تكاد تكون عملته المحلية عديمة القيمة، ويواجه فيه القطاع المصرفي خسائر تقارب ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد.

يتوجب على المرشح الفائز بهذا المنصب، أن يكون قادراً على السير في دهاليز السياسة المعقدة. ومما يزيد الأمور تعقيداً، أن «حزب الله»، المصنف منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، يمكن أن يكون له الصوت الحاسم في عملية التعيين.

البلاد في أزمة خطيرة

من البديهي القول إن من يتولى منصب أول حاكم جديد للبنك المركزي في لبنان منذ 30 عاماً، سيكون لديه الكثير مما يجب التفكير فيه، وليس فقط السياسة النقدية. فقد شهدت البلاد حالة من الانهيار منذ الأزمة المالية التي ضربتها عام 2019، والتي نجمت عن تباطؤ التحويلات من اللبنانيين في الخارج وانخفاض حجم المساعدات الخليجية، واللذين أديا إلى تراجع حاد في تدفقات العملة الأجنبية. وأصبح سلامة هو الوجه الأبرز للأزمة.

اتهم المتظاهرون في جميع أنحاء البلاد الطبقة السياسية بنهب خزائن الدولة لمصلحتهم ومصلحة المقربين منهم، واعتبروا أن حاكم «مصرف لبنان»، هو الذي سهّل على الطبقة السياسية شراء الوقت عبر تبني إجراءات محفوفة بالمخاطر والتسبب بكارثة اقتصادية. قضت الأزمة على أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في السنوات الثلاث الماضية، فيما فقدت الليرة اكثر من 90% من قيمتها.

مديونية هائلة

كان لبنان مديناً بنحو 100 مليار دولار في نهاية عام 2022 – بما في ذلك السندات المتعثرة بالعملات الأجنبية (Eurobonds) – ويديره سياسيون فشلوا في الاتفاق في ما بينهم، حتى على ملامح خطة للتعافي. وقّعت البلاد اتفاقاً أولياً بشأن خطة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي في العام الماضي، لكن يتعين عليها تنفيذ إصلاحات كجزء من الصفقة، وهو ما لم يحدث بعد. طلب صندوق النقد إجراء تدقيق في حسابات البنك المركزي وغيره من المقرضين لتقييم الخسائر غير المعلنة والبدء في إعادة هيكلة القطاع المالي، وتوحيد سعر صرف العملة، واعتماد قانون لمراقبة وضبط رأس المال (الكابيتال كونترول)، وهذه البنود في معظمها تحتاج إلى موافقة البرلمان اللبناني عليها.

دولة فاشلة في منطقة ملتهبة

عادة ما يتمتع محافظو البنوك المركزية المستقلة بأهمية كبيرة؛ لكن في بلد عانى من جولات متقطعة من العنف والصراع السياسي التي شلّت الدولة في بعض الأحيان، يكون هذا المنصب أكثر أهمية. يعتقد بعض المنتقدين أن لبنان على وشك أن يصبح دولة فاشلة في منطقة مضطربة.

قال نسيم نيكولاس طالب، الأستاذ المتميز في هندسة المخاطر في جامعة نيويورك، والمحلل اللبناني- الأميركي: «ما نحتاجه هو المزيد من الشفافية، والمزيد من المساءلة؛ وإلا، فلن يُحدث اختيار خليفة لسلامة أي فرق».

في إشارة منه إلى كيفية تأقلم الشركات مع الوضع من دون وجود ايرادات في بلد تراجعت فيه احتياطيات النقد الأجنبي إلى أقل من 10 مليارات دولار، قال طالب: «الوضع هو الذي يحدد السياسات، وهذا الوضع يتسم بحجم محدود جداً من العملة الصعبة، وباقتصاد يتكيف فعلياً من تلقاء نفسه».

مطلوب تضحيات

قال سعادة الشامي، نائب رئيس الوزراء اللبناني ورئيس الوفد المفاوض مع «صندوق النقد الدولي» لـ»بلومبرغ نيوز»: «الشخص الذي سيتولى قيادة (مصرف لبنان) في هذا المنعطف الصعب، هو شخص مستعد لتقديم تضحيات شخصية، ودفع تكلفة باهظة». وأضاف: «نحن بحاجة إلى شخص يتمتع بنزاهة سليمة، ومستعد للابتعاد عن الطبقة السياسية والتصرف بشكل مستقل، مع التركيز على المهام الرئيسية المتعلقة بالسياسة النقدية، دون الدخول في مناطق (مسائل) ليست في نطاق عمل البنك المركزي».

قام بأدوار ليست له

مع ذلك، يقول منتقدو سلامة إنه عمل على تضخيم دور المصرف كجهة تنظيمية طوال فترة توليه الحاكمية، وقام بتمويل الحكومة مراراً وتكراراً، كما صمم برامج مالية للمحافظة على استمرارية النظام المالي، وسمح للإدارات المختلفة بالانفاق بما يفوق إمكاناتها. كان البنك المركزي المشتري الرئيسي لديون الحكومة، وهو يمتلك أكثر من 60% من سندات خزانة بالعملة المحلية، وما قيمته 5 مليارات دولار من السندات الدولية. كما قدم الدولارات الأميركية للحكومة لتغطية فاتورة الواردات، إذ إن معظم إيرادات الدولة والضرائب يأتي بالعملة المحلية. كما سدد «مصرف لبنان» قيمة سندات دولية وفوائد عليها نيابة عن الحكومة، في وقت كان من المفترض أن تتحمل الحكومة نفسها هذه التكاليف.

دافع سلامة بشكل متكرر عن تلك السياسات، قائلاً إنه كان يشتري الوقت للسياسيين لتنفيذ الإصلاحات. لكن أزمة عام 2019 دفعت لبنان إلى الانهيار، وقضت على إنجازات سلامة، حيث انهار التثبيت الدائم لسعر صرف الليرة اللبنانية الذي استمر لعقود، وظهرت فجوة مالية بقيمة نحو 70 مليار دولار في القطاع المالي، وتخلفت البلاد عن سداد ديونها للمرة الأولى في تاريخها.

كساد متعمّد

في تقرير أصدره عام 2022، وصف «البنك الدولي» الأزمة المالية في لبنان بأنها «كساد متعمّد من تنظيم النخبة في البلاد التي سيطرت على الدولة منذ فترة طويلة واستفادت من مواردها الاقتصادية».

اعتمد لبنان على تدفقات الدولار الأميركي في المقام الأول من الجاليات اللبنانية المنتشرة في الخارج للمحافظة على تثبيت العملة وتمويل العجز الضخم في الحساب الجاري والميزانية. لذلك، عندما بدأ نمو الودائع في الانخفاض عام 2015، إلى جانب عدم الاستقرار في الداخل والحرب في سوريا المجاورة، قدّم البنك المركزي ما أسماه «عمليات الهندسة المالية»، والتي وصفها «صندوق النقد الدولي» مراراً بأنها «غير تقليدية»، وحث «مصرف لبنان» على وقف العمل بها.

هندسات مالية مدمّرة

قدّمت عمليات الهندسة المالية هذه للمقرضين المحليين، عوائد عالية للاستثمار في الودائع لأجل بالدولار لدى البنك المركزي. وللقيام بذلك، كان على البنوك أن تجذب تدفقات جديدة بأسعار فائدة مربحة. كشفت خطة إنقاذ حكومية في عام 2020 أن المصارف التجارية – التي أغرتها العوائد المرتفعة – جمّدت نحو 70 مليار دولار من أصولها لدى البنك المركزي.

حسب تقديرات «صندوق النقد الدولي»، جذبت هذه العمليات أكثر من 24 مليار دولار من المقرضين بين عامي 2016 وشباط 2019. حصلت المصارف التجارية على الأموال من خلال تقديم عوائد مجزية للمدخرين، وأدخلت أموال المتقاعدين والموظفين ضمن برنامج محفوف بالمخاطر بشكل متزايد. جاء تعرّض البنوك لمثل هذه الديون إلى جانب العلاقة المتشابكة بين البنك المركزي والمصارف التجارية، بنتائج كارثية. في بداية أزمة 2019، فرضت المصارف في لبنان قيوداً فعلية على الودائع بالدولار الأميركي لديها. الأمر ببساطة، أنه لم يكن لدى «مصرف لبنان» ما يكفي لدعم الواردات أو التدخل للدفاع عن تثبيت سعر صرف العملة وتمويل العجز المالي، والأهم من ذلك أنه لم يكن قادراً على تلبية التزاماته تجاه المقرضين المحليين.

تلاشي المدخرات… والثقة

الأزمة قضت على مدخرات الناس، وأطاحت كذلك بالثقة في البنك المركزي. في ايار الماضي، حاول مئات المتظاهرين، معظمهم من عناصر الأمن المتقاعدين، اقتحام مبنى البرلمان في وسط بيروت، حيث كان النواب يعقدون جلسة برلمانية بعدما تجاوز سعر صرف الدولار مستوى 140 ألف ليرة، في انخفاض قياسي للعملة المحلية. حتى أن بعض الناس لجأوا إلى اقتحام البنوك لاستعادة أموالهم الخاصة.

مطلوب دولياً

اتهمت السلطات الأوروبية رياض سلامة بالانتفاع بشكل غير مباشر من بيع سندات دولية عبر شركة وساطة مملوكة لشقيقه رجا. كلا الرجلين نفيا هذا الادعاء. استجوب محققون أوروبيون رياض سلامة وآخرين في بيروت مرات عدة خلال العام الجاري. وجاء الإشعار الأحمر الصادر عن «الإنتربول» – وهو طلب إلى سلطات إنفاذ القانون في جميع أنحاء العالم لتحديد مكان شخص وتوقيفه موقتاً في انتظار تسليمه أو إجراء مشابه – في أعقاب إصدار مذكرات توقيف من قبل كل من فرنسا وألمانيا بشأن مزاعم احتيال وغسل الأموال، قال جان ميشيل صليبا الخبير الاقتصادي في «بنك أوف أميركا كورب»: «أعتقد أن الخليفة سيحتاج أولاً إلى التواصل مع الطبقة السياسية والجمهور، والتأكد من حصوله على دعمهم للابتعاد عن سياسات الماضي». وأضاف: «المزيد من المحاسبة الحاسمة ستسمح بفهم أفضل للميزانية العمومية لـ(مصرف لبنان) وموارده».

منصب غير مرغوب فيه

حاول المسؤولون إقناع عدة مرشحين بتولي منصب حاكم البنك المركزي، لكن العديد منهم ترددوا في قبوله. وطالب البعض بضمانات من السياسيين تؤكد موافقتهم على الشروط الصعبة التي قد يفرضها «صندوق النقد الدولي» حال منح الدولة حزمة إنقاذ جديدة، مثل: تدقيق الحسابات الحكومية والضرائب بصورة أكبر. ومن الجهات التي طالبت بهذه الضمانات، كان «حزب الله»، الذي يستطيع عرقلة أي تعيين جديد نظراً لقوته السياسية والعسكرية. كما يخشى البعض الآخر ببساطة تولي هذه المسؤولية في ظل معاناة لبنان من عشرات الاغتيالات السياسية، حسبما أوضح أشخاص مطلعون على مناقشات اختيار خليفة لسلامة.

لا يهم من سيتولى منصب حاكم «مصرف لبنان»، ففي كل الأحوال سيواجه شعباً منقسماً بشدة وغاضباً، وسياسيين يتلكأون عند سلوك أي طريق يسمح بتعافي البلاد، فيما تواجه البنوك اللبنانية أزمة وجودية.

هنري شاوول، مستشار الحكومة السابق الذي عمل على خطة إنقاذ مالي للبنان مع شركة «لازارد» (Lazard) الاستشارية في عام 2020، يرى أن «لب الأزمة هي في البرلمان، لأن أي تغييرات مقترحة على القانون يجب أن تمر عبر مجلس النواب في نهاية المطاف».

أين ذهبت خطة الإنقاذ؟

شكلت الخطة التي وضعها شاوول حجر الأساس للمفاوضات مع «صندوق النقد الدولي»، لكن البنك المركزي والبنوك التجارية المحلية وبعض البرلمانيين اعترضوا عليها، حيث وضعت الخطة للمرة الأولى على الورق، الخسائر الفعلية للقطاع المالي. لكن عدداً قليلاً جداً قبلوا الاعتراف بحجم المشكلة الحقيقي. استقال شاوول بعدها ببضعة أشهر لأنه لم يستشعر وجود «إرادة حقيقية» للإصلاح في الأوساط السياسية، وحذا آخرون حذوه.

في غضون ذلك، لا توجد علامات مبشرة تحت سماء لبنان، حيث يناقش السياسيون وحكومتان متتاليتان مشروع قانون ضبط رأس المال منذ عام 2020، والذي يشترط «صندوق النقد الدولي» إقراره لتأمين خطة الإنقاذ. دخل السياسيون في خلاف مع البنوك وبين بعضهم البعض حول كيفية توزيع الخسائر وطرق السداد لصغار المودعين. لكن العقبة الأولى أمامهم كانت الاتفاق على قيمة تلك الخسائر.

على صعيد متصل، يرى مستشارون سابقون ومرشحون وزاريون أن الطريقة المثلى لتجنب أي تأخير في منظومة الإصلاح هي منح السلطة التنفيذية سلطات استثنائية، وأن يكون حاكم البنك المركزي على استعداد لتقييد الدعم المالي للحكومة، مع الضغط بقوة من أجل تنفيذ الإصلاحات. لكن الضغوط تتفاقم على لبنان في انتقاء واختيار الإصلاحات، والوقت ينفد بسرعة.

اختتم صليبا، المحلل الاقتصادي في «بنك أوف أميركا»: «من المنظور السياسي، سنجد أن لبنان يحتاج إلى مزيد من الشفافية على مستوى البنك المركزي، مع توحيد سعر صرف العملة، ووقف التمويل الضخم للميزانية، وتنفيذ إصلاحات مؤسسية بما في ذلك تلك التي يشترطها (صندوق النقد الدولي). ولو تجاهل حاكم (مصرف لبنان) المقبل أحد هذه البنود، قد يفشل في مهمته».

مصدرنداء الوطن
المادة السابقةمنصة الدولار الجديدة شرّ لا بد منه
المقالة القادمةخلافات حاكميّة مصرف لبنان إلى العلن… ما العبرة؟