أسقط القاضي الشجاع أحمد مزهر، للمرّة الثانية، محاولة أحد المصارف «التسلّط»، كما وصفها مزهر، على ودائع الناس. هذه المرّة أراد أن يكون قراره رسالة إلى المعنيين، مفادها أن الفقه لا يناصر الكتل ذات النفوذ مثل المصارف ومصرف لبنان، بل الفئات الضعيفة، موضحاً أن المصارف تمارس الكابيتال كونترول خارج التشريع
فعلها القاضي أحمد مزهر للمرّة الثانية. أصدر قراراً يلزم فيه بنك بيبلوس بتحويل مبلغ 1138580 دولاراً من حساب المدّعي ماجد أبو زيد في هذا المصرف إلى حسابه في مصرف HSBC في دبي لتمكينه من سداد ديونه لطارق عساف البالغة 4 ملايين و700 ألف درهم. أراد القاضي مزهر أن يجعل هذا القرار عبرة لمصرف لبنان وللمصرف المعنيّ ولجمعية المصارف ولكل من حاول حجز ودائع الناس بقوّة النفوذ من دون مبرّر قانوني ونصّ تشريعي يجيز له ذلك، فأشار إلى أن الكابيتال كونترول الذي تمارسه المصارف غير شرعي، متبنياً وجهة نظر فقهية توجب حماية حقوق الفئات الأضعف من دون مراعاة لقوة هناك أو تجمّع هناك في إشارة إلى نفوذ المصارف. إنها الضربة الثانية التي يوجهها مزهر للمصارف بوصفها كتلة تمارس نفوذاً غير مشروع.
تفاصيل القضية
تقدم ماجد أبو زيد بدعوى على بنك بيبلوس يطلب فيها من القاضي إلزام المصرف بتحويل مبلغ 1138580 دولاراً من حسابه في المصرف ــ فرع النبطية، إلى حسابه في مصرف HSBC في دبي ـ فرع جبل علي، مشيراً إلى أنه استدان مبلغاً كبيراً في شهر أيلول من طارق عساف ”وهو يعلم أن حسابه يستحق لدى المصرف بتاريخ 21 كانون الأول 2019».
المصرف برّر امتناعه عن القيام بعملية التحويل على النحو الآتي:
ــ إن رفض التحويل نابع من ظروف استثنائية وتدابير مشدّدة اتخذتها المصارف ومصرف لبنان والتي أكّد عليها الأخير بموجب تعميم صادر في 4/12/2019، وهذه الظروف تشكّل قوة قاهرة.
ــ يحق للمصرف الامتناع عن إجراء الحوالات إلى الخارج من دون أن يشكل ذلك إخلالاً بتنفيذ موجباته تجاه المدعي.
ــ كذلك أبدى استعداده لدفع قيمة الوديعة بشيك مصرفي وهو وسيلة إيفاء تبرئ ذمته.
الحق المشروع
بعيداً عن التفاصيل القانونية لجهة الشكل في النزاع بين بنك بيبلوس وأبو زيد، فإن القاضي انتقل في اتجاه ”البتّ السليم في طلب المدّعي“ ما يستدعي التحقق من انطباق الفقرة الثانية من المادة 578 من أصول المحاكمات المدنية التي تجيز للقاضي اتخاذ التدابير الآيلة إلى إزالة التعدّي الواضح على الحقوق أو الأوضاع المشروعة. وهذا الأمر، كما أشار القاضي، يستلزم توافر شرطين متلازمين: وجود حق أو وضع مشروع يضمن القانون حمايته، وثبوت وجود تعدّ واضح وساطع بعدم مشروعيته على هذا الحق أو هذا الوضع يتيح اتخاذ تدبير يؤول إلى إزالة التعدي.
تقصّي القاضي لتوافر هذه الشروط اقتضى ”التعريج على مفهوم التحويل المصرفي“. أوضح أنه بمقتضى هذا المفهوم، يتم نقل مبلغ من حساب مصرفي إلى حساب آخر، وتؤدي هذه العملية إلى الإيفاء بالديون (دين المصرف تجاه المودع) من دون حاجة إلى نقل النقود ذاتها… وهذه العملية تقوم بها المصارف عادة وعرفاً لمصلحة زبائنها وعملائها وإذا تم بين مصرفين في دولتين مختلفتين يكون تحويلات مصرفياً دولياً.
بعد ذلك، انتقل القاضي إلى أوراق الملف والعقد الموقّع بين المودع وبين المصرف. تبيّن له الآتي: ”العقد الموقّع من العميل ينصّ على أنه تُراعى الأحكام والشروط والقوانين المرعية الإجراء والأعراف المصرفية والعلاقة العامة بما فيها كل العمليات المتعلقة بفتح وتحريك الحساب بين العميل والمصرف“.
كذلك أشار إلى أن للعميل مبلغ 1138580 دولاراً في حسابه، وأنه سبق أن طلب من المصرف في شهر تشرين الثاني، تحويل مبلغ 100 ألف دولار إلى الخارج لتسديد نفقات علاجه وقد تمت الموافقة على ذلك، إلا أن المدعي تراجع، مشيراً إلى أن ”للمدعي حقاً مشروعاً بإجراء تحويل مصرفي داخلي أو دولي منشؤه العقد الموقّع بينهما“.
بعد إثبات الحق المشروع، انتقل القاضي إلى تقصّي مسألة التعدّي على حقوق العميل ”ما يتيح تدخل قضاء الأمور المستعجل لاتخاذ التدابير الآيلة إلى إزالته“.
الذرائع الواهية
نقض القاضي كل ذرائع وادعاءات المصرف على النحو الآتي:
ــ إن إدلاءات المصرف حول استعداده تسديد الوديعة شيكا مصرفياً مسحوباً على مصرف لبنان بعيدة عن مطلب المدعي الرامي إلى إجراء تحويل مصرفي إلى الخارج لتسديد ديونه لطارق عساف الإماراتي بقيمة ٤ ملايين و٧٠٠ ألف درهم. وهذا العرض من المصرف لا يحقق نفعاً للمدعي لجهة دفع الضرر عنه ومعونته على سداد التزاماته المترتبة عليه لدائنه في الخارج، أي أن هذه الوسيلة لا تبرئ الذمة مطلقاً تجاه المستفيد.
ــ تعميم مصرف لبنان لم يأت على ذكر منع التحويلات إلى الخارج ولم يمنع المصارف القيام به، فترد إدلاءات المصرف الرامية إلى استنباط ما لا يمكن استبناطه من التعميم.
ــ لم يثبت المصرف أن الظروف الاستثنائية التي يتذرّع بها ترقى إلى القوى القاهرة، ولا إلى تعرضه لحدث أجنبي لا يقبل الدفع وغير متوقّع كي يُعفى من موجباته.
ــ لا يجوز للمدعى عليه (المصرف) الامتناع عن القيام بعملية اعتاد القيام بها عرفاً من دون وجود مبرّر قانوني أو مشروع يجيز هذا الامتناع وإلا عُدّ امتناعه تعسفياً ومن شأنه إلحاق الضرر غير المشروع بعميله المودع.
قيود غير قانونية
ولم يكتمل قرار القاضي من دون توضيح مسألة أساسية: الحجز على ودائع المودعين. قرّر أن يتوسّع في التقصي عن الحقيقة من خلال توصيف امتناع المصرف عن القيام بعملية التحويل، مشيراً إلى أنه ”لا يمكن أن يكون هذا الامتناع إلا قيوداً وضوابط فرضها المصرف على أموال المودع أو ما يعرف بالكابيتال كونترول التي تُعرّف على أنها مجموعة إجراءات تتّخذها الحكومة أو مصرف لبنان أو الهيئات التنطيمية المتعددة، للحدّ من تدفّق رأس المال الأجنبي داخل وخارج الاقتصاد المحلي بهدف تنظيم التدفقات المالية، وتشمل فرض الضرائب والتشريعات والقيود على حجم القوى الموجودة في السوق المحلية وعلى السحوبات النقدية اليومية عبر المصارف والتحويلات النقدية ومدفوعات بطاقات الائتمان خارج البلاد. ومن خلال هذه السياسة يبدأ القطاع بفرض القيود غير الرسمية، ومنها منع التحويلات إلى الخارج والحد من عمليات السحب النقدي لمنع خروج الأموال وحماية احتياط العملات الأجنبية ولجم التغيّرات في سعر الصرف“.
المودع هو الطرف الأضعف المستوجب الحماية في مقابل المصرف أو جمعية المصارف
ولم يكتف القاضي بالإشارة إلى أن الكابيتال كونترول، هي ضوابط على حق الملكية والتسلط على أموال وممتلكات الأفراد والمجموعات ولا يمكن أن تتم إلا بموجب تشريع واضح وصريح أو قرارات تنظيمية صادرة عن الهيئات المذكورة بالاستناد إلى قوانين واضحة تفرض تلك القيود والضوابط، بل حدّد أيضاً أنه ”لا يمكن لأي تكتل مصرفي أو هيئة إدارية أو تنظيمية أو جمعية ومهما علا شأنها أن تضع ضوابط على التحويلات والسحوبات ومعاملات المواطنين إلا بموجب قرارات صريحة وواضحة لا ضمنية، معتمدة بذلك مبدأ الشفافية ومستندة إلى تشريع يقرّه ممثلو الشعب (السلطة التشريعية)“.
التعدّي الصريح
وخلص القاضي إلى أن بنك بيبلوس ”لم يثبت وجود هذه التشريعات، وليس أدلّ على ذلك من محاولة أحد النواب، وكما هو معلوم من الكافة، التقدم بقانون يتعلق بالكابيتال كونترول، وهو ما رفض في البلد، ما يثبت أن إجراءات كهذه بحاجة إلى نص تشريعي“، معتبراً أن فعل المصرف ”يؤلف تعدياً واضحاً وغير مبرّر“، انطلاقاً من كون التعدي هو كل فعل أو امتناع عن فعل يصدر عن شخص خارج نطاق حقوقه المشروعة ويلحق ضرراً بالغير سواء في حقوقه أو أمواله أو سلامته وما سواها… وقد ينجم هذا التعدي عن فعل لم يجزه القانون أو جراء امتناع أحد المتعاقدين عن تنفيذ التزاماته الثابتة أو خرق التعهدات الواضحة والأعراف المستقرّ عليها في التعامل بشكل تعسفي ومن دون مبرّر مشروع.
حماية الأضعف
هكذا أثبتت تقصيات القاضي، أن امتناع المصرف عن إجراء التحويل يجعل المدعي في حالة ”عجز عن الإيفاء رقم كونه ميسوراً في لبنان، ما يعرضه للملاحقة أمام القضاء المختص، فيكون فعل التعدي الواضح الصادر عن المدعى عليه مسبّباً لضرر قد لا يمكن جبره في جانب المدعي المودع“.
والأهم في هذا القرار أن القاضي اعتبر أن المودع ”هو الطرف الأضعف المستوجب الحماية في إطار التعامل المصرفي في مقابل المصرف أو جمعيات المصارف القادرة على تحمل الظروف الاقتصادية أكثر من العملاء والزبائن والمواطنين“، لافتاً إلى أن ”الفقه توصّل صراحة إلى الأخذ بهذا الرأي، فلم يُجز للمصرف أن يرفض أمر التحويل الصادر عمّن له سلطة تشغيل الحساب إذا كان هناك رصيد كافٍ، ولم يجز للمصرف التحري عن سبب الأمر الصادر إليه بالنقل وعليه أن ينفذ التحويل من دون تأخير، وإلا كان مسؤولاً عن التأخير وفقاً لتقدير القاضي“.
لذا، قرر القاضي الزام بنك بيبلوس فرع النبطية بتحويل مبلغ وقدره 1138580 دولاراً إلى حساب المدعي في مصرف HSBC دبي فرع جبل علي، ”فوراً تحت طائلة غرامة إكراهية مقدارها 10 ملايين ليرة عن كل يوم تأخير“.
القرار الأول
في نهاية تشرين الأول الماضي أصدر القاضي أحمد مزهر قراراً يكسر فيه كل القيود غير القانونية التي فرضتها المصارف على حسابات الزبائن لتقييد عمليات السحب والتحويل، مسجّلاً سابقة قضت بإلزام «بنك بيبلوس» تسديد قيمة الحساب العائد لشركة «كومرس إنترناسيونال» والبالغة قيمته 129 ألف يورو فوراً ومن دون تأخير، تحت طائلة غرامة إكراهية قيمتها 20 مليون ليرة عن كل يوم تأخير، وعلى أن يكون الدفع «نقداً أو وفقاً للوسيلة التي ترتضيها الدائنة المستدعية».
رسالة مزهر إلى المعنيّين
ربما جاءت الفقرة الأخيرة في قرار القاضي أحمد مزهر، بمثابة رسالة إلى السياسيين وسائر القضاة الذين وافقوا على الامتناع عن البتّ في القضايا التي تخصّ المودعين المطالبين بودائعهم بالشكل الذي يريدونه، إذ نصّت على الآتي: ”لا محيد عن التذكير بأنه رغم الوضع الصعب الذي يمر به الوطن إلا أن وظيفة القضاء عموماً وهذه المحكمة خصوصاً تبقى تطبيق القوانين ومنع خرقها والحفاظ على الحقوق العامة والخاصة وحماية الأموال والممتلكات والنطق بالحق بعد ثبوته وجلائه وحماية الطرف الأضعف وأخذ الحق من الظالم للمظلوم… لأن وظيفة القاضي كانت وستبقى إقامة العدل وإحقاق الحق من دون اعتبار آخر، وهذا هو واجبه وما على سائر السلطات الأخرى إلا القيام بواجباتها“.