إذا كنت مع إقرار قانون ضبط رأس المال (كابيتال كونترول) أو ضده، فالأمر سيّان، لأنّ الموضوع أصبح في كل الأحوال في حكم الأمر الواقع، فأموالك أيها المودع لم تعد موجودة اليوم إلّا على الورق.
في العالم، نجد أنّ العديد من الدول والمصارف طبّقت إجراءات ضبط رأس المال (حتى من دون إقراره ضمن قانون أحياناً) كخطوات استباقية وقائية تفادياً للوقوع في أزمات مرتقبة.
في لبنان، كنّا نعيش في حالة نكران الى أن وقعت الواقعة. البلد الذي كان يتخبّط بأزمته المالية والاقتصادية منذ أكثر من 3 سنوات خَبّأ الشمس بإصبعه بدل أن يواجه الحقيقة ويبدأ في تطبيق إجراءات إنقاذية مسبقة، منها على سبيل المثال ضبط رأس المال (Capital Control) حتى يحتفظ بالعملة الصعبة داخل حدوده، ولو أنّ ذلك قد لا يعجب المودعين، بدل اللجوء الى رفع الفوائد بشكل خيالي لاستقطاب ودائع جديدة، وإقرار الهندسات المالية من قبل المصرف المركزي التي أمعنت في تعميق الأزمة بدل حلها. ولو أننا اعتمدنا هذه السياسة من قبل لَما كان وقع الكابيتال كونترول قاسياً على المواطن والاقتصاد كما هو اليوم.
ثمّ أتت ثورة تشرين لتكون القشّة التي قصمت ظهر البعير، وكشفت النظام المالي الهَش. فالمصارف التي استثمرت الجزء الأكبر من أموالها مع الدولة الفاسدة والمفلسة، بدل أن توزّع استثماراتها ومخاطرها، في الداخل والخارج وعبر المصارف المراسلة، لم تستطع تلبية ودائع عملائها الذين تدفّقوا مرة واحدة لسحب أموالهم، وهنا اضطرت المصارف الى تشديد الإجراءات وتطبيق الكابيتال كونترول كأمر واقع ومن دون أية تشريعات، للحفاظ على ملاءتها وحتى لا تعلن إفلاسها. علماً أنّ أي مصرف في العالم إذا تعرّض لِما نسمّيه Run To Bank أو هجمة لسحب الودائع لن يستطيع تلبية حاجات السوق ضربة واحدة مهما كان محتاطاً، فكيف إذا لم يكن؟
في الفترة الأخيرة بدأ الحديث عن تشريع الكابيتال كونترول، الذي كان يرفضه في البداية رئيس مجلس النواب رفضاً قاطعاً باعتباره سطواً على ودائع الناس، لكن هذا التشريع بدأ اليوم يلاقي تجاوباً أكبر من كافة الأطراف، لمنع الاستنسابية في التعامل مع المودعين وفرض ضوابط على التحاويل والاستثناءات بالتساوي على الجميع، وحفاظاً على ما تبقى من أموال داخل البلد، بعد أن خرجت المليارات قبل الثورة وبعدها. والأهم يأتي هذا التشريع لحماية المصارف من الإفلاسات ومنع رفع دعاوى من قبل المودعين عليها.
لكن المؤسف أنّ التأخير جعل التطبيق أصعب وأشدّ تعقيداً، بدليل أنّ جمعية المصارف قالت باستحالة تطبيق ما ورد في القانون المقترح لجهة الأرقام الكبيرة من العملات الأجنبية التي سيسمح بتحويلها الى الخارج والتي ستكون كفيلة بإسقاط بعض المصارف إذا بقي السقف الذي أشار اليه المشروع عند حدود الـ 50 ألف دولار سنوياً لمن يستفيد منه، الأمر الذي أكّد عليه أيضاً صندوق النقد الدولي الذي اعتبر أنّ القانون المنتظر قد يؤدي الى إخراج حوالى 10 مليارات دولار سنوياً الى الخارج، واقترح تخفيض المبلغ الى 25 ألف دولار. كل ذلك يؤكد أنّ المصارف لم تعد تمتلك السيولة لتطبيق الاستثناءات التي يطرحها القانون الجديد للكابيتال كونترول. وبالتالي أسقط سلامة هذا القانون، لإغفاله 4 نقاط اساسية أبرزها: السيولة المتوافرة، السرية المصرفية، تبييض الأموال، والجهة المخوّلة مساءلة المصرف المخالف (المحاكم المدنية، الجزائية او الهيئة المصرفية العليا). ونحن الآن بانتظار قانون جديد.
على كل حال، هذا الانكشاف المصرفي كان سيحصل عاجلاً أم آجلاً، حتى لو لم تحصل ثورة 17 تشرين ويتهافت الناس لسحب ودائعهم، لأنّ لبنان كان يعيش حالة تسمّى Ponzi Scheme أو مخطط بونزي، وهو شكل من أشكال الاحتيال يتمثّل بوعود بالربح الكبير، ويموّل هذا الربح من تدفق رأس المال نفسه حتى انفجار فقاعة المضاربة، التي تورّطت فيها الدولة وحكومات المحاصصة والطائفية المتعاقبة والمصارف والمصرف المركزي. وخطأ القطاع المصرفي أنه استرسل مع الدولة، في الوقت الذي كان يجب أن ينتبه لأنه مؤتمن على ودائع الناس.
المخرج الوحيد بالنسبة للبلد الآن هو ضَخ كتلة نقدية جديدة نأمل أن تكون عبر صندوق النقد، والاستثمارات المرافقة لخطة الإصلاح عن طريق المشاركة بين القطاع العام والقطاع الخاص BOT أو PPP، علماً أنّ هذه الاستثمارات لا يطبّق عليها قانون الكابيتال كونترول ولديها حرية في تحويل أموالها وأرباحها الى الخارج، وهذا ما ستفعله على الأرجح، الا إذا دخل لاعبون جدد على السوق المصرفي في لبنان.
في النهاية، نحن جميعاً، حكومة وقطاعاً مصرفياً وشعباً، ساهمنا في إفلاس البلد وإفلاس المصارف وإفلاس أنفسنا. فالشعب عاش على النظام الريعي، وكسب فوائد مضخمة وخيالية من المصارف التي كانت تموّل المنظومة السياسية الحاكمة، وفي لعبة تَذاكٍ أوقعت الجميع في الهلاك.