فاجأ النائب التغييري ملحم خلف الجميع بهجومه على استراتيجية النهوض بالقطاع المالي بعد أكثر من شهر على إقرارها. ففي الوقت الذي وُضع فيه تموضع خلف الجديد في خانة حماية المصارف، برر النائب الذي عرف يوماً بـ”نقيب الثورة”، لفوزه في رئاسة نقابة المحامين عشية انتفاضة الاستقلال، موقفه بحماية كل المودعين ورفض إعفاء الدولة والمتسببين بالانهيار من مسؤولياتهم.
نستأذن من النائب المحامي ملحم خلف، في لعبنا دور “محامي الشيطان” للدولة، ونسأل إن كانت قوانيننا المرعية الإجراء أفضل من قوانين بقية الدول الليبرالية التي أعادت هيكلة مصارفها على قواعد تجارية واضحة، تقضي بأن “الخاسر يتحمّل مسؤولية خسائره من رأسماله وفي حال العجز يفلس”. إذ لا يمكن بفلسفة الأنظمة الرأسمالية، وحتى تلك “المتوحشة” منها، الاستمرار في ما درج اعتماده منذ ثلاث سنوات بتحميل المودعين الخسائر بـ”هيركات” متدرج يصل إلى 90 في المئة قبل تصفير رأسمال المصرف. فالرأسمال بحسب الخبير المصرفي جان رياشي هو “خط الدفاع الأول، فيما المودع هو بمثابة الدائن. وعليه فإن الدائن لا يتحمّل الخسارة قبل أن يكون المساهم قد خسر كل شيء”.
حجج عاطفية، أحياناً غير منطقية
هذه القاعدة العامة، التي دأب فريق عريض من اللبنانيين على التشديد عليها لكونها تمثل المنطق، وتضمن محاسبة البنوك بوصفها الجهة المسؤولة عن ضياع الودائع، تواجه بحجج تناجي العواطف. منها على سبيل المثال ما ساقه النائب خلف في كتابه التحذيري لنائب رئيس الحكومة الوزير سعادة الشامي؛ حيث قال خلف إنه لا توجد علاقة سببية بين المودعين والفجوة الهائلة في مصرف لبنان (عبارة عن توظيفات المصارف غير الموجودة في المركزي والتي تقدر بحسب الخطة الحكومية ما بين 72 و74 مليار دولار). وعليه لا يحقّ للدولة بحسب خلف إلغاؤها (Haircut)، واستبدالها بأسهم مصرفية دون قيمة (Bail-in)، وتحويلها إلى الليرة (Liralification)، والتمييز في ما بينها بحسب حجمها… وكل إجراء من هذا النوع يشكّل تعدياً على الملكية الخاصة التي يحميها الدستور (المادة 15) والمواثيق الدولية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الكتلة الدستورية اللبنانية، عملاً بقرار المجلس الدستوري رقم 2/2001 الأمر الذي يجرّد مجلس الوزراء من الحق والسلطة، والتالي من إمكانية المسّ بالملكية. كما الحجج التي ساقها النائب خلف أوقعته بنقطة جدلية كبيرة تتعلق برفضه التمييز بين الودائع.
المصارف تتحمل مسؤولية توظيفاتها
القوانين التي يتذرع بها خلف، “لن تنقذ الودائع”، يقول خبير المخاطر المصرفية د.محمد فحيلي. بمعنى أنها لن تؤدي إلى عودتها إلى أصحابها. فالمنطق الذي يشاع يحمل مخاطر بإمكانية إعلان البنوك، التي تزيد الضغوط المعنوية والقانونية والشعبية عليها لإرجاع الودائع بقيمتها الأصلية، إفلاسها. و”هو ما يورّط المودع أكثر ما يورّط صاحب المصرف”، بحسب فحيلي. وعليه فإن حماية الودائع يجب أن تكون بتنظيم العلاقة بين المصرف والمودع، بتوجيه من السلطة النقدية صاحبة الاختصاص.
في ما يتعلق بالفجوة فإن جزءاً كبيراً منها يقدر بحسب فحيلي بـ60 مليار دولار هو عبارة عن توظيفات استثمارية للمصارف مقابل فوائد عالية في مصرف لبنان، وهي تتعدى حدود التوظيفات الإلزامية بالدولار للمصارف (15% أساساً، خفضها الحاكم إلى 14%) والاحتياطي الالزامي المفروض مقابل الودائع بالليرة اللبنانية (25% تصرفت المصارف بنحو 70% منها على القروض المدعومة). وبالتالي فإن الواجب حمايته في مصرف لبنان، هو هذه الأموال بالتحديد، وليس كل توظيفات المصارف في مصرف لبنان، التي تتحمل المسؤولية عنها المصارف، لكونها استثمارية وخيارية وليست إلزامية. من دون أن يعني هذا الكلام تعميم ضرورة إفلاس المصارف، فهناك مصارف قادرة على إعادة الرسملة على قواعد متينة وجدية والاستمرار بخدمة الاقتصاد اللبناني. وعلى لجنة الرقابة على المصارف الفصل بين البنوك القادرة وتلك العاجزة التي يجب أن تخضع للدمج أو التصفية أو البيع أو خلافه”.
كل ما من شأنه تحييد المصارف عن المسؤولية بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال التحجج بالمودعين، ستكون نتيجته واحدة: استمرار القطاع “كزومبي بنك”. وسيستمر المودعون بدفع الثمن من خلال اضطرارهم إلى سحب ودائعهم بقيم غير حقيقية محددة من مصرف لبنان بتعاميم أقل ما يقال فيها إنها استنسابية. إذاً ما الحل؟
عجز عن تأمين الودائع
النائب ملحم خلف يقترح:
– تحقيق خطط جدية ومتكاملة لتحقيق نهضة اقتصادية.
– السير قدماً بالتدقيق الجنائي.
– استعادة الأموال المنهوبة والمهرّبة.
– تثبيت مسؤولية المسؤولين في مصرف لبنان، ولجنة الرقابة على المصارف، وهيئة الأسواق المالية، ومفوضي المراقبة، ووزارة المالية، والمصارف التجارية، وكلهم مسؤولون بالتكافل والتضامن.
– عدم تبريء صندوق النقد الدولي ومؤسسات التصنيف الدولية من المسؤولية لسكوتها عن المخاطر المحدقة منذ العام 2010.
كل ذلك ضروري ومطلوب لكن هل يعيد الودائع؟
من الواضح أن “من يتحكم بالقرارات السياسية، الإدارية والمالية عاجزون عن تأمين الودائع من الناحية التقنية كيفما مالت دفة القرار”، برأي الخبير الاقتصادي طالب سعد. “مع التأكيد أن المطالبة والاستمرار بالتشديد على حقوق المودعين وتشريعها بقانون هو حق مكتسب لا يقبل النقض”. وبرأيه إن “الاعتراف بالحق شيء والقدرة على تطبيقه شيء آخر مختلف كلياً. فإرجاع الودائع بناء على الوعود قد تمرّ عليه أجيال قبل أن يُنفّذ. الأمر الذي يتطلب الانتقال إلى البحث عن الحلول العملية كتحسين قيمة الليرة وإعادة الثقة بها، وعندها تصبح إعادة الأموال بالليرة أمراً منطقياً وملائماً في الوقت عينه. إذ من شبه المستحيل على أي مصرف مركزي مهما كانت قوته إعادة الودائع بالعملة الاجنبية بصيغتها الاولية في حال تبخرها لأي سبب من الأسباب”.
تذويب الودائع
في المقابل يؤكد سعد أن استمرار المراوحة في “اللاحل” تستفيد منه المصارف من خلال تذويب ما لديها من ودائع على أسعار صرف أقل بقليل من السعر الحقيقي. وهذا ما أدى إلى تخلص المصارف من الكثير من الودائع الصغيرة، والدليل تراجع الودائع بشكل عام بأكثر من 30 مليار دولار. إلا أنه في المقابل فإن عدم تحقيق القطاع المصرفي الأرباح الخيالية التي كان يحققها في السابق من مضاعف الأموال Money multiplier جنّب البلد، من وجهة نظر سعد، “نسب تضخم أعلى بكثير من الأرقام المحققة”.
الصندوق السيادي ليس حلّاً
أحد الحلول التي لم يقلها صراحة النائب ملحم خلف، ولكنه قد يكون قصدها بين سطور كتابه، من خلال تحميله مسؤولية التعويض على المودعين وعلى الدولة و”المركزي” هو “الصندوق السيادي”. وبغض النظر عن اسمه، سواء كان ائتمانياً أو توفيرياً أو استثمارياً فإن هدف الصندوق واحد: استخدام موارد الدولة من أصول وعوائد وثروات قائمة ومتوقعة للتعويض عن المودعين. ومثل هذه الطروحات تحمل برأي المستشار المالي د. غسان شماس، بغض النظر عمّن يقترحها، خلفيات ليست بريئة، تتوقع تعثّر الصندوق وعجزه عن الالتزام بالتعهدات، للانقضاض على الملك العام ووضع اليد على الأصول”. وإذا كان من المستبعد الذهاب بعيداً بمثل هذه الطروحات برأي شماس، فإن “المطلوب هو إعادة هيكلة الديون باتفاق بين الدولة والبنوك على غرار ما يتوقع أن يحصل بالنسبة إلى السندات بالعملة الأجنبية “يوروبوندز”، وإعادة الودائع بعملة الايداع. أمّا عن السبب الذي يحول دون الوصول إلى مثل هذا الحل المنطقي فهو استمرار مراهنة البنوك على تخلف الدولة ورفضها إعادة الجدولة فيصبح عدم التزام البنوك بالسداد للمودعين أمراً واقعاً، “فتنفد بريشها” بأكثر من 100 مليار دولار كان سبق أن راكمتها في خزائنها، وحققت من خلالها أرباحاً باهظة”.
يقال بالامثال الشعبية “كثرة الطباخين بتحرق الطبخة”، وهذا ما قد يحصل بالنسبة إلى معالجة مشكلة الودائع، “التي لم تكن لمرة قانونية كما يحلو للبعض تصويرها، إنما مالية”، يشدد شماس. فـ”المودع لا دخل له بصندوق سيادي أو غيره مما يطرح من حلول، بل أن يتقاضى من المصرف الوديعة التي وضعها لديه. والبنك الذي يعجز عن الايفاء يعتبر متعثراً ولا يمكن له رد الأموال إلّا بإعادة الجدولة. وهنا يلفت شماس إلى أنه “في الامثلة العالمية عندما يتعثر قطاع برمته فإن عدم تدخل الدولة سيضعه في موقع المتعثر غير القادر على رد الأموال”.
كل الحلول المنطقية إذاً، تعود بنا إلى ضرورة تقييم المصارف كل حالة بحالتها، وتحديد مطلوباتها وموجوداتها ونسبة تورطها بالديون المسمومة ومساهمتها في “تهريب” الاموال ومن ثم رفع السرية المصرفية وفصل الحسابات النظيفة عن تلك الوسخة، ومن بعدها احتساب الودائع التي استفادت من فوائد باهظة ومعاملة تفضيلية… والقائمة تطول من إجراءات أولية تهدف إلى الإنصاف لم تبدأ منذ ثلاث سنوات، وعلى ما يبدو أنها لن تبدأ مستفيدة من تعدّد الأجواء الشعبوية للاستمرار في تحميل الخسائر للمواطنين.