“كل الدروب بتودّي عالتهريب”… منافع ومصالح وخطوط حمر

لطالما شكّلت المعابر البرّية وخصوصاً غير الشرعية بين لبنان وسوريا محوراً لنزاعات أمنية نتيجة سيطرة “حزب الله” عليها من الجانب اللبناني لتمرير الأسلحة والمنتوجات والبضائع قبل الحرب الإسرائيلية، وسيطرة شبّيحة النظام السوري من الجانب السوري قبل انهيار نظام الأسد. إلا أنه بُعَيد تسارع وتيرة الأحداث الأخيرة وإضعاف “حزب الله” والسعي لتطبيق القوانين اللبنانية بضبط الحدود، استبشر اللبنانيون خيراً بأن الدولة ستمسك زمام الأمور، وتضبط التهريب. فهل تمّ تحجيم التهريب فعلاً؟

بُعَيد قرار وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في 27 تشرين الثاني وسقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، عمّت الفوضى في سوريا فانحدر منسوب التهريب بدرجة كبيرة على المعابر غير الشرعية، إلا أنه ما لبث أن نشط مجدّداً في حين أن الشرعية منها (عددها 5 العبودية والعريضة في عكار، المصنع في البقاع، القاع في البقاع الشمالي والبقيعة في عكار) باتت أكثر انضباطاً وملتزمة بتطبيق القوانين في عملية دخول وخروج البضائع والأشخاص. علماً أن معبر “المصنع” هو الوحيد الذي يعمل حالياً.

جهازان يتمركزان على الحدود البريّة الشرعية، أولاً الأمن العام لضبط دخول الأفراد من سوريا، كما تنصّ عليه القوانين. والجمارك لضبط البضائع التي تدخل إلى لبنان، فتتمّ مراقبتها وتفتيشها والتأكّد من أنه مسموح دخولها وتسديد الرسوم المترتّبة على كل صنف منها.

بالنسبة إلى حركة تدفّق السوريين إلى لبنان عبر المعابر الشرعية، تراجعت الحركة لأن العابر اليها يترتّب عليه حيازة إقامة، على عكس المعابر غير الشرعية. أما لناحية البضائع فإنها مضبوطة على الحدود الشرعية، لكنها نشطت عبر المعابر غير الشرعية والتي يقدّرها البعض بـ 136 معبراً، ومنهم من يقدّر عددها بأكثر من 160 معبراً، تمتد على طول الحدود اللبنانية السورية. ومن هنا يتمّ تهريب البنزين أيضاً والمنتجات الزراعية… التي لا يجيز القانون دخولها وخروجها من وإلى لبنان.

واستناداً إلى مصدر جمركي مطّلع، أحرز “الأمن العام تقدّماً كبيراً على صعيد تهريب الأفراد والبضائع عبر المعابر الشرعية، ولكن المشكلة في غير الشرعية منها. إذ إن حجم التهريب عاد ليرتفع بشكل كبير خصوصاً منذ بداية السنة، أكان على صعيد الأسلحة والخضار والفواكه والدجاج… من سوريا إلى لبنان أو على صعيد المنتجات الاستهلاكية من لبنان وكذلك الإسمنت.

فقدرة “الجمارك” محدودة ووضعها ضعيف، يقول المصدر، لناحية الإمكانات التي لديها من سيارات، وإن توفّرت لا بنزين متوفّراً بشكل كاف، ولا بوالص تأمين على تلك السيارات عدا عن عديد الموظفين القليل. منذ نحو شهر ضبطت الجمارك مثلاً 150 عملية تهريب، في موازاتها، هناك 15 ألف عملية تهريب تحصل بطريقة غير شرعية.

ما هي المواد الأكثر تهريباً على الحدود اللبنانية-السورية؟

بعد انهيار نظام بشار الأسد ودخول البلاد في حالة فوضى، تبيّن النقص الحاد في كل المواد الاستهلاكية في السوق السورية والحاجة لتلبيتها من المنتوجات المتواجدة في لبنان، وتأتي في طليعة تلك المواد المحروقات. في المقابل يدخل إلى لبنان من سوريا أسلحة وخضار ولحوم ودجاج عن طريق التهريب.

فالمحروقات لم تعد مدعومة في لبنان ولم يعد سعر الصفيحة متدنياً كما كان في السابق أيام الدعم إذ كانت وقتها صفيحة البنزين في لبنان بقيمة 40 ألف ليرة مقابل 150 ألف ليرة في سوريا فيحقّق التاجر السوري أرباحاً كبيرة إذ يبيعها أعلى بأضعاف. ما الذي يستدعي إذاً زيادة تهريب المحروقات؟

الطلب على شراء البنزين والمازوت اللبناني من سوريا ازداد للأسباب التالية:

أولاً، حاجة تلك السوق إلى المحروقات ووجود نقص كبير لديها.

ثانياً، جودة المحروقات الموجودة في لبنان التي تفوق تلك المتوفّرة في سوريا.

ثالثاً، التهرّب من الإجراءات القانونية والمادية المترتبة على المصدّر على الحدود.

وفي هذا السياق يقول رئيس تجمّع الشركات المستوردة للنفط مارون شمّاس لـ “نداء الوطن” إن تهريب المحروقات من لبنان إلى سوريا استعر في الآونة الأخيرة بطريقة غير شرعية لأسباب تقنيّة، قوامها ضرورة الاستحصال على إذن من وزارة الطاقة للتمكّن من تصدير المحروقات بطريقة شرعية إلى سوريا. وبما أن العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا من خلال قانون قيصر تمنع التعاون مع سوريا على الصعيد التجاري لا يمكن لوزارة الطاقة منح التاجر اللبناني الإذن المطلوب، فاعتمدت وسيلة التهريب من التجار أصحاب النفوذ لإدخال 4 ملايين ليتر من المحروقات (بنزين ومازوت) إلى سوريا، ما يعود بالفائدة على التاجر وعلى الدولة اللبنانية التي تحصّل، كما أوضح شمّاس، من مبيع كل صفيحة بنزين TVA بقيمة تبلغ نحو 1,8 أو 1,9 دولار”.

قرار بضبط تهريب المحروقات

لكن ما لبثت تلك المشهدية أن تلبّدت بالمحظورات، إذ أصدر الجيش اللبناني خلال الأسبوع المنصرم تحذيراً من تهريب صهاريج المحروقات إلى سوريا. وبالفعل ترجم هذا التحذير على الأرض، إذ فرض بدءاً من منتصف الأسبوع الماضي ضوابط صارمة وقاسية جداً عند الحدود اللبنانية – السورية تمّ بنتيجتها تكثيف الدوريات من قبل قوى الأمن والجيش اللبناني، وتوقيف عدد كبير من الصهاريج التي تحمل كميات مهرّبَة من المازوت والبنزين من لبنان إلى سوريا، فمنعها من إكمال طريقها. وأُرفِقَت هذه الضوابط بقرار إقفال المعابر غير الشرعية بصورة حازمة. والإجراءات تلك المتّخذة أدّت إلى “توقف عمليات التهريب بنسبة تتخطّى الـ 90 في المئة في الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع الماضي”.

ويأتي هذا القرار، استناداً لمصادر “نداء الوطن”، إلى أسباب سياسية قد تكون ناجمة عن عدم وجود تعاون من الجانب السوري مع اللبنانيين في ما يتعلّق بالسوريين الموجودين في لبنان.

وفي السياق، تبلّغ الأمن العام اللبناني رسمياً من الجهات السورية منذ يومين “إقفال الحدود البريّة عند نقطة المصنع يومياً بين الساعة الحادية عشرة ليلاً والخامسة فجراً بتوقيت بيروت وهو إجراء متَّبَع عند كل المعابر البريّة لسوريا”. لكن لماذا تستقدم سوريا المحروقات من لبنان؟

تستورد سوريا المحروقات اليوم من تركيا والأردن بسبب العقوبات الأميركية المفروضة عليها والتي تحظّر التعامل معها. ونظراً إلى النقص المتواجد في السوق، خصوصاً بعد سقوط نظام بشار الأسد، باتت تعتمد على استيراد المحروقات من لبنان أيضاً عبر الحدود غير الشرعية لأن التعاون مع سوريا تجارياً غير مسموح، علماً أنه وفق شمّاس، “إن مواد المحروقات التي تصل إلى لبنان تتّبع المعايير الأوروبية وبالتالي تتمتّع بجودة عالية”.

التداعيات الاقتصادية للتهريب

لا تداعيات سلبية اقتصادياً على خزينة الدولة جراء تجارة تهريب البنزين إلى سوريا للأسباب التالية:

– تتقاضى الدولة قيمة الـضريبة على القيمة المضافة، والتي تقدّر يومياً بنحو 280 ألف دولار على البنزين، وتستفيد من رسوم المرفأ لدى وصول البضائع اليه.

– التاجر اللبناني يستفيد من زيادة تتراوح بين دولارين أو ثلاثة دولارات على كل صفيحة بنزين أي كل 20 ليتراً. وذلك يتفاوت حسب العرض والطلب والمكان الذي تسلّم فيه البضاعة، وقد يصل الفارق إلى 5 دولارات.

– يسجّل التاجر ربحاً يدخل إلى البلاد بالعملة الصعبة وتخرج مجدّداً من البلاد عند شراء كميات أخرى من المحروقات.

– زيادة كمية استيراد لبنان للمحروقات بنسبة نحو 30% لتلبية السوق السوري.

أما بالنسبة إلى توريد المازوت، فلا تستفيد الدولة من أي عائد نتيجة عدم وجود TVA على تلك المادة .

الكلفة الاقتصادية السلبية

الإيجابيات التي تعود إلى التجار والدولة اللبنانية بالنسبة إلى المحروقات والأرباح التي تحقّق من التجار السوريين أيضاً الذين يبيعون، على سبيل المثال، صفيحة البنزين بـ 28 دولاراً في حين أن سعر المبيع في لبنان يتراوح بين 16 و 17 دولاراً، ويبيعون قارورة الغاز بقيمة 20 دولاراً في حين أنها تباع في لبنان بـ 12 دولاراً، تقابلها سلبيات في المواد الاستهلاكية الأخرى لا سيما الخضار والفاكهة التي تباع عن طريق التهريب إلى سوريا ولها تداعيات على الاقتصاد اللبناني.

حول ذلك أوضع الخبير الاقتصادي جاسم عجّاقة لـ “نداء الوطن” أن سبب زيادة التهريب إلى سوريا: أولاً، الحاجة اللوجيستية للاستيراد من لبنان لأن سوريا خاضعة لعقوبات قانون قيصر ولا تستطيع الاستيراد.

وثانياً، زيادة الأجور في سوريا وبالتالي القدرة الشرائية ما أدّى إلى زيادة الطلب على اللحوم والمحروقات بالدرجة الأولى.

أما زيادة كميات المنتجات المهرّبة إلى سوريا فيساهم وفق عجّاقة بالتالي:

– تكبير دائرة التداول بالعملة النقدية التي تكون بغالبيتها بالدولار فتسدّد قيمة المنتوجات بالدولار النقدي. وهذا الواقع يؤدي إلى إشكالية كبيرة بالنسبة إلى لبنان باعتبارنا على اللائحة الرمادية. فالتعامل بالـ “كاش” وفق تلك الطريقة سيتسبّب بمشاكل للبنان وسيصعّب عملية الخروج من اللائحة الرمادية.

– تراجع العرض للمواد التي تهرّب إلى سوريا في السوق اللبنانية وقد تنقص بضائع في لبنان ما سيؤدّي تلقائياً إلى زيادة سعرها بما يساهم بتفاقم التضخّم.

– خسارة الدولة تلقائياً عائدات لا يمكن تشفيرها لأنها تخرج من البلاد عن طريق التهريب الذي تزايد منذ وقف إطلاق النار في 28 تشرين الثاني إلى حينه.

المواد المهرّبة من سوريا

هذا في ما يتعلق بالمنتجات التي تتوجّه إلى سوريا ماذا عن تلك التي تدخل إلى لبنان؟

مقابل المنتوجات المتواجدة في لبنان والتي تهرّب إلى سوريا لسدّ حاجة السوق السوري، هناك منتوجات تسلك طريقها إلى لبنان عن طريق التهريب وأوّلها المزروعات، باعتبار أن كلفة الزراعة وأجر العامل السوري في سوريا، أرخص من كلفة وأجر العامل السوري في لبنان، وبالتالي إن المزروعات تكون كلفتها أقلّ من لبنان لذلك يتمّ إدخالها عن طريق التهريب خصوصاً اذا كانت تدخل في موسمها.

رئيس مصلحة الزراعة في جبل لبنان عبّود فريحة أوضح لـ “نداء الوطن” أن “كلفة الزراعة في سوريا هي أدنى من لبنان لذلك يتمّ تهريب بعض المنتوجات إلى لبنان، ما ينافس ويضرّ بالمنتوجات اللبنانية ويكون المزارع اللبناني الضحيّة إذ لا يتمكّن من تصريف منتوجاته، وإذا حفظها في البرادات مثل البطاطا، على سبيل المثال، يتكبّد كلفة إضافية للتبريد والحفظ”.

في ظلّ هذا الواقع، تسعى وزارة الزراعة قدر الإمكان لمحاربة التهريب عبر الحدود غير الشرعية رغم أن إمكانياتها ضعيفة جداً. فعديد الوزارة قليل، يقول فريحة، “وتعتمد ضمن الدور المناط بها وسيلة التتبّع للبضاعة من خلال الفواتير، فتلاحق المسار الذي سلكته البضاعة في السوق المحلّي، وهي مسألة صعبة لأن التاجر فاجر ويعلم كيف يوضّب البضاعة ويضعها في كراتين لبنانية يصعب من خلالها اكتشاف هويةّ المزروعات وما اإ كانت مهرّبة وليست منتوجاً لبنانياً”.

خلال عملية التتبّع للفواتير، يضيف فريحة: “يلعب الأمن العام دوراً في تلك العملية. كوزارة زراعة، نقوم بدوريات، نجمع المعلومات ونعدّ التقارير ونوقّع فنّياً أن منتجات معيّنة كالبطاطا على سبيل المثال أو سواها هي مهرّبة. عندها تتحرّك النيابة العامة وتضبط المزروعات المهرّبة، بعد ذلك تبيع المنتوجات المضبوطة أو تفرض غرامة على التاجر أو تسلّمها إلى مراكز الأيتام أو حتى إذا كانت كميّتها قليلة يمكن أن تتلفها”.

وإذا كان همّ التاجر الربح وتوفير أكلاف الرسوم الجمركية المترتبة عليه عبر المعابر الشرعية والالتزام بتطبيق الاتفاقيات الزراعية منها اتفاقية تيسير، يبقى همّ المزارع العاجز عن معاداة التاجر والخاسر الوحيد في عملية التهريب، عدم ضياع موسمه من خلال منافسة المنتوجات المهرّبة والمباعة في السوق اللبناني لمزروعاته، لناحية السعر والجودة. التفاح التركي على سبيل المثال الموجود في السوق، إذا كانت نوعيته إكسترا وسعره 100 ألف ليرة أي أعلى بـ 30 ألف ليرة من المنتوج اللبناني عندها يختار المواطن شراء التركي على اللبناني.

وبذلك لا تنحصر المزروعات المهرّبة إلى لبنان بالمنتوجات السورية بل التركية أيضاً مثل التفّاح والإجاص والخضار والدجاج والبطاطا والتي تمرّ عبر المعبر الأخطر وهو وادي خالد.

قرار سياسي

إذاً، تعتمد عملية وقف التهريب في لبنان أو الحدّ منها، على اتّخاذ قرار من الدولة اللبنانية من خلال إصدار تعاميم في هذا الشأن. ولغاية الساعة لم يُتّخذ هذا القرار بعد، علماً أن وزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال عبّاس الحاج حسن وجّه بحسب فريحة كتاباً إلى قائد الجيش لوقف شاحنات البصل والبطاطا التي ترد إلى السوق، كما راسل رئيس حكومة تصريف الأعمال الذي بدوره عرضها على كل الوزراء…

لا يوجد بلد في العالم يمكنه أن يضبط حدوده بنسبة 100% من أعمال التهريب فكيف بالحري في بلد “خسع” و”هشّ” مادياً وسياسياً مثل لبنان. إن ضبط عصابات التهريب على الحدود اللبنانية السورية الطويلة والمحفوفة بالتعرّجات والتي تمتدّ على مسافة 380 كيلومتراً، مسألة صعبة وتتطلّب قراراً سياسياً توافقياً وأمنياً من الداخل اللبناني بالدرجة الأولى، وبالتوازي من الجانب السوري، عدا عن ضرورة نشر نحو 4000 عنصر إضافي من الجيش اللبناني على تلك المعابر لضبطها بشكل كامل مع تفعيل أبراج المراقبة التي وضعت على الحدود منذ سنوات ولم يتمّ تشغيلها بشكل جيّد حتى اليوم.

مصدرنداء الوطن - باتريسيا جلاد
المادة السابقة“تنفيعة” القرم لموظفين في “تاتش”
المقالة القادمةفرص في سلاسل التوريد العالمية لمستقبل الطاقة الخضراء بالمنطقة