يستعيد الاقتصادي كمال حمدان ما حصل في الثمانينيات وما تلاها في مطلع التسعينيات من تثبيت نقدي استمرّ لغاية 2019 لتفسير العلاقة بين تضخّم الأسعار وسعر صرف الليرة مقابل الدولار. فعندما يأخذ التضخّم وتترسّى مفاعيله، تعود الأسباب العميقة إلى الظهور مثل التركّز الاحتكاري الذي يقود هذا التضخّم اليوم، رغم الثبات النسبي في سعر الصرف. وبالعمق نفسه، يعتقد حمدان أن هذا الثبات هشّ وزائف في ظل أزمات خارجية وفراغ محلّي في الحكم وانسداد «حنفيات» تدفق الدولارات وتضرّر المداخيل والمدّخرات بشكل واسع، واقتصار خيارات التمويل على تحويلات المغتربين. باختصار، هناك إعادة تشكيل للطبقات الاجتماعية وقلق من انهيارات «على الطريق»
ما تفسيرك لمستويات التضخّم المرتفعة التي تسجّل رغم الدولرة النقدية الواسعة؟
– التضخّم ليس قدراً، سواء في الأزمات أو في أيام المدّ الاقتصادي الصاعد، بل هو محصّلة لعوامل وسياسات عميقة ومتداخلة ومعقّدة. لا يمكن تفسير هذا التضخم ربطاً بسعر الصرف فقط، بل هناك عوامل أخرى ذات تأثير متفاوت تظهر بشكل أوضح عندما تأخذ الأمور مداها. إذ تعود الحقائق العميقة في الاقتصاد لأداء دورها، مثل التركّز الاحتكاري في الأسواق الذي لطالما شكّل رافعة لزيادة الأسعار.
في البدء، كانت ردّة فعل الأسعار على صدمة الانهيار بطيئة نسبياً. ففي أول سنة على الانهيار (2020)، ازداد سعر الدولار الوسطي مقابل الليرة بمعدل 243% مقابل زيادة وسطية في الأسعار على أساس سنوي بمعدل 66%. كان واضحاً أن التضخّم لم يأخذ مفاعيله. وفي 2021، سُجّلت زيادة متساوية تقريباً في ارتفاع الدولار (189%) وارتفاع الأسعار (147%). أما في 2022، فقد حصلت الانعطافة وسجّل مؤشّر الأسعار 175% مقابل زيادة في سعر الدولار 92.6%. لكن المفاجئ أنه في الفصل الأول (أول ثلاثة أشهر) من 2023 سجّل مؤشّر الأسعار زيادة بمعدل 131% مقابل ارتفاع الدولار 127%. كنا ذاهبين نحو التضخّم الفالت. ولو استمر هذا المسار في الفصول التالية، لعمد الناس إلى قتل بعضهم بعضاً.
ما الذي تعنيه هذه الأرقام؟ على مدى عشرين عاماً، سبقت التثبيت النقدي في 1997، كانت الزيادة في الأسعار دائماً أعلى من الزيادة في سعر الدولار (باستثناء سنة واحدة)، وبالنتيجة كان يتم اقتطاع جزء أكبر فأكبر من دخل المقيمين لمصلحة القلّة المتحكّمة بالأسواق، وهذا ما صار واضحاً عندما نوقشت سلسلة الرتب والرواتب في 2012 بعد ثبات في أجور القطاع العام لنحو 16 سنة مقابل ارتفاع في الأسعار بمعدل 121%، وفي القطاع الخاص حصلت تصحيحات بقيمة 200 ألف ليرة «على الراس» في 2008 وبمعدل 25% في 2012.
إذاً، تعود العلاقة العضوية بين تركّز الأسواق وارتفاع الأسعار إلى الظهور مجدداً بعيداً من أي نقاش حول الأسباب البنيوية والعميقة، لا من خلال تفسير نمط العلاقة السابق، ولا من خلال تفسير ما يحصل الآن. في عام 2002، وبطلب رسمي، أجرينا دراسة شملت 300 سوقٍ تفسّر هذه العلاقة، إذ تبيّن أن درجة التركّز من ثلاث شركات تستأثّر بثلثَي هذه الأسواق. هذا التركّز في رأس المال كان دائماً رافعة لزيادة الأسعار. الآن التضخّم الذي كان يظهر من خلال ارتفاع سعر الدولار، بدأ يظهر بعمقه الفعلي ويقود المسار.
كيف تنعكس العلاقة العضوية بين الأسواق والأسعار على الأجور وعلى رساميل أصحاب العمل؟
– لا شكّ بأن رأس المال أصيب، وقد ظهر ذلك من خلال الضرر اللاحق بالمصالح وإقفال الشركات، لكن مع ذلك فلننظر إلى حصص الأجور والأرباح من الناتج المحلي الإجمالي. في السبعينيات كانت كتلة الأجور من الناتج مقدّرة بما بين 40% و45%، وفي أول تقدير رسمي نفّذه روبيبر كسباريان في 1997 قدّرت بنحو 35%، لكن ضُرب كسباريان على يده حتى يتوقف عن اعتماد منهجية احتساب الناتج وفق مكوّنات الأجور والأرباح. ومع انعقاد مؤتمرَي باريس 2 وباريس 3، ظهرت تقديرات من منظمات دولية تقدّر حصّة الأجور من الناتج في لبنان بـ 24%، وفي 2012 عندما بدأ التفاوض على سلاسل الرتب والرواتب ظهرت تقديرات شبه رسمية تشير إلى أن حصّة الأجور بلغت 20%. أما الآن، فقد تقلّص الناتج بشكل كبير وبات أكيداً أن حصّة الأجور هي أقل بكثير مما كانت عليه، بل أقدّر أنها أقل من 15%، وهذا واضح من خلال انكماش العمل المأجور، وارتفاع معدلات البطالة التي تقدّر وفق منظمات دولية بنحو 35%.
هناك انطباع سائد بأن الأسعار استعادت مستوياتها مقابل هزالة تصحيح الأجور؟
– لنأخذ حالة موظفي الدولة التي تنطبق على شرائح أخرى واسعة تقع اليوم في أسفل السلّم الاجتماعي. للعلم، هؤلاء كانوا «لوردات»؛ عملياً، تضاعف سعر الدولار 55 مرّة مقابل تضاعف الأسعار 50 مرّة، ولم نشهد أيّ تصحيحات نظامية للأجور بل إجراءات يمكن وصفها بالـ«إحسان». إذا جمعنا كل «الإحسان» الذي حصل عليه موظف من الفئة الثالثة الذي كان يتقاضى راتباً بقيمة 3 ملايين ليرة (2000 دولار)، فإن راتبه اليوم مع بدل النقل يصل إلى 38 مليوناً. وهناك نقاش دائر الآن في منح الموظفين بدل «إنتاجية» بمعدل شهري يتراوح بين 20 مليون ليرة و25 مليون ليرة. وفي المحصلة، قد يصل مجموع ما يتقاضاه إلى 60 مليون ليرة شهرياً، أي ما يوازي 670 دولار، وهذا يعني أن الموظف لم يستعد أكثر من ثلث القوّة الشرائية التي خسرها. والخسائر تصبح أكبر ربطاً بانهيار خدمات التعليم والصحة، إذ بات على الموظف أن يقتطع 90% من راتبه لتأمين ما كان يحصل عليه عبر نظام الحماية الاجتماعية.
بهذا المعنى، إن الأجور كالأيتام على مأدبة اللئام. ورأس المال لديه قدرة أعلى بكثير على التكيّف… لكن مقابل هزالة تصحيح الأجور، هناك فئة من الأجراء تقدّر نسبتها بما بين 15% و20% استعادت كامل أو بعضاً من قوّتها الشرائية أو راكمت أرباحاً. هذه الفئة تشمل الأجراء والعاملين في الدوائر الوسطى – العليا، والعليا في القطاع الخاص، بالإضافة إلى العاملين في الـ NGO، ومن هم غير الأجراء وسواهم ممن يستفيد من أجور مدولرة بالكامل ومن تحويلات من الخارج. لنأخذ مثلاً الجامعات الكبيرة، مثل الجامعة الأميركية وغيرها، فقد تدولرت أجور الأساتذة بـ 25% في بداية الأزمة وارتفعت اليوم إلى 75%. أجور هؤلاء كانت مرتفعة أصلاً، أي أنهم يصنّفون الآن في فئة الأجور الميسورة التي يصل عددها إلى مليون شخص.
انطلاقاً من تراجع حصّة الأجور من الناتج، وظهور فئة ميسورة الأجر، ما الذي تغيّر في بنية الطبقات الاجتماعية؟
– هناك إعادة تشكيل كاملة للطبقات الاجتماعية في لبنان مع انهيار الطبقة الوسطى التي خسرت قسماً كبيراً من مداخيلها وتبخّرت ادخاراتها التاريخية. ورغم تعدّد منهجية احتساب الفقراء لدى المنظمات الدولية، إلا أنه في النتيجة تتراوح نسبة من يحمل صفة فقير بين 50% و80%. برأيي، من أبرز مظاهر إعادة التشكيل الطبقي، انهيار العمل المأجور وزيادة العمل غير النظامي. المشهد هو على النحو الآتي: لدينا جزر من الفئات ذات الصلة بعالم الاحتكارات وأصحاب النفوذ والمواقع المنتفعة تاريخياً من خدمات الدولة، مقابل فئات من الفقراء. من النادر أن تُضرب القوّة الشرائية في بلد ما، من زاويتين: المداخيل والادخار. هناك خسائر الدخل، وخسائر في أصل الادّخارات ومردودها. هذا حدث استثنائي.
هل تعتقد أن تثبيت سعر الصرف الآن يشبه إلى حدّ ما مرحلة التثبيت النقدي في مطلع التسعينيات؟
– برأيي، الثبات النقدي النسبي الذي نشهده اليوم، لا يشبه سياسة التثبيت النقدي السابقة. ففي مرحلة الحريرية، كان التثبيت النقدي مرتبطاً بالخيارات الكبرى يوم كانت «حنفيات» إدخال الدولارات شغّالة من مؤتمرات باريس إلى «أمانات» من الدول العربية ودعم الرئيس شيراك… انطلاقاً من مشهد ارتفاع الأسعار، أنا قلق من أن التثبيت النقدي الآن يأتي في ظل أزمات في المنطقة، وفراغ استثنائي في مركز القرار، وتشتت طبقي، وعودة أحلام التقسيم والفدرالية. التثبيت الحالي مؤقّت. في السيناريو الأسوأ، قد نشهد فلتاناً للدولار في ظل احتياطي ضعيف وعجز المصرف المركزي عن التدخل، إلا إذا أرادوا تطيير ما تبقى من أموال المودعين خلال سنتين أو ثلاث، وصولاً إلى تطيير الذهب. لا أرى أن هناك ضمانة من فلتان أعلى في سعر الصرف.
يمكن القول إن التثبيت الحالي هشّ جداً وزائف. يجب النظر إلى نتيجة الحساب الجاري بوصفه المرجع الأهم لفهم تثبيت سعر الصرف من دون أن ننسى أن جزءاً من فاتورة الاستيراد هو لتغطية حاجات الاقتصاد السوري. لذا عندما ينخفض الناتج من 55 ملياراً إلى 20 مليار دولار ويواصل لبنان الاستيراد بما قيمته 17 مليار دولار، رغم وقف الدعم، يصبح الأمر غير مفهوم، إذ كان يجب أن ينخفض الاستيراد إلى النصف. وبالتالي، هذا التثبيت قد يدوم لبضعة أشهر، إنما إذا كان الأساس عاطلاً فلا يمكن تجميل الطوابق العليا، مثل الفراغ السياسي والإصلاحات والقوانين التي تحتاج إلى مراسيم تنفيذية. فعلى سبيل المثال، ما يشار إليه كإنجازات مثل قانون التقاعد والحماية الاجتماعية (ضمان الشيخوخة)، يحتاج على الأقل إلى 19 مرسوماً تنفيذياً وإلى موارد بشرية وقواعد معلومات وتمويل… تنفيذه يحتاج إلى ثورة تشبه الثورة الفرنسية.
هل الهدف من سياسة التثبيت الجارية توطئة التكيّف في المجتمع؟
– في ضوء ما حصل في الفصل الأول من 2023 وانخفاض المداخيل إلى النصف خلال ثلاثة أشهر، كان لا بدّ من إجراء استثنائي للتسكين. للمقارنة، فإن ما حصل في الثمانينيات، وباستثناء 1987 حين حصل تصحيحَين للأجور، فإن معدل زيادة الأسعار في الفترة ما بين 1984 و1994، بلغت 110%، أي أن ما حصل في الفصل الأول من 2023 هو أربعة أضعاف ما حصل طوال تلك الفترة. كذلك أتصور أن هناك إيحاءات خارجية. كنا نقترب من مرحلة الفلتان والفوضى، لذا لجأت السلطة إلى سياسة التسكين.
ما هي الفرضيّات والمدّة الزمنية المقدّرة لاستعادة الأجور خسائرها؟
– إذا كان النمو الاقتصادي السنوي 6%، فنحن نحتاج إلى 8 سنوات لنستعيد 60% من الناتج المحلي الإجمالي المسجّل في عام 2018. لكن لبنان الآن لا ينمو. الأمر مرتبط بفرضيات النمو والقدرة على فرض إصلاحات وتغييرات في السياسات وإعادة توزيع في الدخل… «بدّا حلم الله».
البورجوازية تهجّر لتدفع أقل
تاريخياً، جرّبنا كل صيغ النظام الطائفي وهيمناته وانتهينا إلى ما نحن عليه الآن. البورجوازية اللبنانية استسهلت تصدير رأس المال البشري لتغطية العجوزات التجارية والمالية بتحويلات المغتربين. لكن في الواقع، خسرنا صفوة عناصر القوّة حين اكتفينا بتصدير رأس مال بشري أنفقنا عليه مليارات الدولارات ليردّ للبنان جزء يسير من الاستثمارات. وكلما تعقّدت أزمة البلد، زادت الهجرة واتّجه الاستثمار نحو الخارج. هذا الاستسهال كرّس نظرة دونيّة للأجور والأجراء. فالكوادر التي تهاجر هي الفئات التي تدرك حقوقها وهي من ينتج قيمة مضافة وتضغط على صاحب العمل لفرض إشراكها بحصّة عبر زيادة الأجور والتقديمات. يحلّ محلّ هؤلاء فئات من الأجراء تنظر إليهم البورجوازية وأصحاب العمل بنظرة دونية؛ كلّه بُني على أسس طبقية واحتكار واقتطاع نسبة أكبر من الناتج من الأقلية المسيطرة التي تدخل بشراكات مع أهل الحكم من عائلات وطوائف وأبرشيات دينية.
إذا لم يخرج من كل هذا الجوع والنهب الممأسس من يطالب ويعمل لبلورة مشروع خارق للطوائف لملاحقة هؤلاء وأصولهم في لبنان والخارج لا يمكن استرداد الخسائر. من استفاد بغير حقّ عليه أن يدفع الثمن.
50% اقتصاد الكاش
تقديرات الناتج المحلي الإجمالي محفوفة بمخاطر منهجية كبيرة واستنساب. ويعود ذلك إلى اقتصاد الكاش الذي يطغى على ما لا يقل عن 50% من النشاط الاقتصادي، فضلاً عن ارتفاع العمل غير النظامي إلى أكثر من 45% من القوى العاملة. لذا، الفرق كبير بين ناتج بقيمة 18 مليار دولار، وناتج بقيمة 23 مليار دولار، وهذا ينطبق على تقديرات حصص الأرباح والأجور منه
«فوائد أكسترا»؟
حتى الآن، لا نعرف كيف سيتم توزيع الخسائر لأن المسؤول عن توزيعها هو المسؤول عن إنتاج هذه الخسائر ومراكمتها وانتفاعه منها. بين عامَي 1993 و2022 بلغت قيمة خدمة الدين 82 مليار دولار، ثلثها على الأقل هو فائدة «إكسترا»… يجب أن نرى من استفاد وكشف حساباتهم لدى مركزية المخاطر في مصرف لبنان، حيث يمكن معرفة الحركة التفصيلية لكل حساب. من هذا الكشف، يمكن محاسبة كبار المودعين وأصحاب المصارف وكبار الموظفين بما يملكون من أصول ثابتة وغير ثابتة
توليفة عشوائية من 4 بدائل
ترافق تبخّر الودائع وانهيار القيمة الفعلية للمداخيل مع سقوط منظومة الحماية الاجتماعية، فعمدت القوى الحاكمة إلى اعتماد توليفة عشوائية من أربعة بدائل بحسب ما سمحت به الظروف، بدلاً من إصلاح شامل للنظام الضريبي ينقل العبء الضريبي الأساسي الملقى على استهلاك الفئات المتوسطة والفقيرة، إلى أصحاب المداخيل العالية وأصحاب الثروة ورأس المال. ولا يتوقّع أن يتغيّر هذا النمط قريباً نظراً إلى التخلّف العضوي والتشوّهات العميقة في نسق تكوين القوى الحاكمة. هذه البدائل هي:
– استسهال اللجوء الى طبع النقد، ما فاقم انهيار العملة الوطنية والاتجاهات التضخمية؛
– التصرّف التدريجي برصيد احتياط البنك المركزي بالعملات الأجنبية، والإمعان في تبديد ما تبقّى من ودائع.
– الإيغال في تعميق الخلل في الاقتطاع الضريبي عبر فرض ضرائب جديدة معظمها غير مباشر، ما يعمّق أوجه عدم العدالة الاجتماعية في بلدان تعاني في الأصل من تركّز شديد في توزّع الثروة والدخل.
– ممارسة شكل من أشكال «التسوّل» لدى المنظمات الدولية والدول المانحة طلباً للهبات أو القروض الميسّرة، ما يعزّز الخضوع والتبعية لمشيئة هذه الدول.