هناك ضرورة قصوى لتوحيد أسعار الصرف

لم يتوصّل لبنان بعد إلى آلية متّفق عليها لتحديد خسائر القطاع المالي وقنوات توزيعها، بينما يتسارع الانهيار، كما بات معروفاً، بشكل مدمّر بما ينطوي عليه من أبعاد محليّة ودوليّة. هل تعتقد أن فرصة إدارة هذا الانهيار والحدّ من الخسائر الاقتصادية والاجتماعية قائمة، أم أن العطب في بنية النظام بات غير قابل للإصلاح ويدفع الجميع إلى الغرق أكثر فأكثر بحثاً عن نظام بديل غير متوافر حتى الآن؟

في أحسن الأحوال، إنّ آلية تحديد الخسائر وتوزيعها (الدولة – مصرف لبنان – المصارف التجارية)، ليست أكثر من علاج جزئي يُسهم في تحسين المالية العامة لجهة تقليص حجم الدين العام وكلفة خدمته، وهو ما يخفّض الضغط الهائل عن مصرف لبنان لتمويل العجز بضخّ النقد («طبع العملة» بلغة العامة). وعدا عن تخفيف الضغط على الموازنة، ليس واضحاً كيف يمكن أن يساعد ذلك الوضع المعيشي بشكل مباشر. لذلك، لا يجب أن يستهلك تحديد الخسائر جهداً كبيراً من الحكومة.

إنّ تبنّي آلية تحديد الخسائر وتوزيعها يمكن أن يحسّن موقف لبنان في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي بأنّ الحكومة جادّة في تنفيذ بعض الإصلاحات. لكن هذا لن يحلّ الأزمة لأنّ ملفات لبنان عديدة: أولاً هناك شروط أميركية وخليجية قديمة جديدة مطلوبة من الدولة اللبنانية وكلّها سياسي وهي تؤذي، حتماً، أيّ نهوض اقتصادي يمكن أن يحصل. لقد فشلت حكومات رفيق الحريري في الحصول على أموال في مؤتمر باريس 1 عام 2001 ومؤتمر باريس 2 عام 2003، لأنّ استعداد صندوق النقد لمساعدة لبنان مرتبط بهذه الشروط السياسية. وما سيكون عليه موقف الصندوق، ينسحب على الدول الرئيسية الأخرى. ما يعني حالياً، أنّه حتى لو نفّذ لبنان «الإصلاحات المطلوبة» سواء بعد مؤتمر «سيدر» برعاية حكومة سعد الحريري أو في المفاوضات القائمة بين حكومة دياب وصندوق النقد هذا العام، فلن تذهب الأمور إلى حلحلة مالية فورية. لذا، ثمّة ضرورة قصوى لتوحيد أسعار صرف الدولار في أسواق بيروت واتّخاذ إجراءات مرحلية للجم الاستيراد (رغم انحداره فثمّة حاجة لتقليصه أكثر لأنّ ميزان المدفوعات في وضع كارثي)، وكذلك تحفيز التصدير وتحويلات اللبنانيين من الخارج.

المعركة الفعلية الدائرة اليوم هي تلك المتعلقة بتوزيع الخسائر. ميزان القوى بين الأطراف بدأ يميل لمصلحة الطرف الذي كان الأكثر استفادة من أرباح المرحلة السابقة (المصارف وشركاؤها)، فهل هناك أدوات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية متاحة اليوم لإخضاع عملية التوزيع إلى معايير أكثر عدالة؟

ميزان القوى كان وسيبقى لمصلحة الأطراف الأكثر استفادة ضمن عُرف دولة المحاصصة. لكن عدم نجاح الحكومة في معالجة ملف «توزيع الخسائر» ليس المعيار الوحيد للخروج من الأزمة. فمصاب لبنان أعظم من معالجة ملف «الخسائر» بل هو في تفكيك المنظومة وإدارتها المُغرضة منذ 1992، والتي يعني استمرارها مراوحة المحميات والمحاصصة في الإدارة العامة وتكبيل القضاء والإصرار على الاقتصاد الريعي وإهمال الزراعة والصناعة. إنّ أي أدوات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للمعالجات الجزئية تحتاج إلى مراسيم حكومية أو قوانين اشتراعية يوافق عليها مجلس النواب. لقد اكشتفنا في السنوات العشر الأخيرة صعوبة تمرير مرسوم قوي وفعّال في مجلس الوزراء، كما أنّ هيمنة قوى المحاصصة على البرلمان يمنع كل وأي مشروع قانون إنقاذي كما شهدنا في مسألة قانون الـ«كابيتال كونترول» وإغراقه في لجان ومواقف مغزولة. فكيف مثلاً البرلمان الذي منح الحكومة الثقة قبل شهور قليلة، يقوم اليوم بإغراق قراراتها في اللجان ويأخذ دورها في تقديم القوانين. ثم إنّ أي أدوات رسمية تتعطّل ولا معنى لها أمام العوامل الخارجية بدءاً بآثار الحرب السورية على اقتصاد لبنان وتجارته والعقوبات الأميركية والحصار والصراع الإقليمي بين محورين وجائحة كوفيد 19، وأخيراً، وهنا الأهم بالنسبة إلى لبنان: استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية هذا العام.

هل يشبه الانهيار الحالي ما حصل في الثمانينات؟ أم أنه أسوأ؟

هناك بعض أوجه الشبه ولكنّه شكلي. نعم انهارت العملة أمام الدولار في الثمانينات وتدهورت المالية العامة وتضخّمت الكتلة النقدية وتهدّدت الأسس المعيشية للمجتمع. كل هذا وأكثر حصل في الثمانينات. إلا أنّ عقد الثمانينات كان الأسوأ في تاريخ لبنان منذ أكثر من مئة عام: بلاد منقسمة إلى كانتونات متناحرة، مرافئ ميليشياوية على طول الساحل، تجارة وصناعة المخدرات تسهم بأكثر من 50% من الناتج المحلي القائم في عام 1987، اجتياح وغزو إسرائيلي وصل إلى بيروت وقتل 20 ألفاً وهجّر نصف مليون، انقطاع شبه دائم في الكهرباء والماء، استيراد المواد السامة والمشعّة، حروب أهلية وحتى ضمن الطائفة الواحدة في معظم المناطق… بعض الناس يدغدغهم «الماضي الجميل» ويتناسون وفق التعبير الفرويدي، أنّ الأنا السفلى تطمس الذكريات المؤلمة وتحوّل الماضي إلى شيء جميل. لحسن الحظ هناك الأرشيف والمراجع التي تذكّر دائماً بكوارث الثمانينات.

 

كمال ديب: الأخبار

المادة السابقةرابطة الموظّفين: لإقرار 50% سلفة غلاء معيشة
المقالة القادمةالسلّة الغذائية.. عمرها قصير وتأثيرها على الدولار قليل