أصاب قرار الحكومة الإثيوبية ببدء ملء “سد النهضة” الشارع المصري بالصدمة، وسط مخاوف من الخسائر الاقتصادية الكارثية التي باتت على الأبواب بسبب دخولها مرحلة الفقر المائي.
ونهر النيل بالنسبة للمصريين هو شريان حياتهم، إذ لا يتوقف الأمر عند توفير مياه الشرب بل تمتد تأثيراته إلى مختلف الأنشطة الزراعية والصناعية والتجارية وغيرها، ومن هنا سيطر خبر بدء ملء سد النهضة على أحاديث الناس في المواصلات العامة والطرقات والأسواق وداخل البيوت وفي الأوساط الاقتصادية.
كوارث عديدة تنتظر المصريين مع دخول البلاد إلى مرحلة الفقر المائي، أبرزها تبوير ملايين الأفدنة الزراعية وخسارة مئات الآلاف من فرص العمل والعصف بالكثير من الصناعات بالإضافة إلى تدمير الأمن الغذائي وموجة غلاء ستطاول مختلف السلع، حسب تقارير رسمية ودولية ومراقبين.
أديس أبابا تتحدى
جاء قرار أديس أبابا بملء السد، بعد فشل المفاوضات على المستويين الفني والقانوني بين الدول الثلاث: مصر، السودان، إثيوبيا، يوم الاثنين الماضي، عبر تقنية الفيديو كونفرانس، والتي استمرت لمدة أسبوعين، وبحضور مراقبين من قبل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والأفريقي، فيما أكد مصدر مسؤول بوزارة الري بالقاهرة لـ”العربي الجديد”، أن اجتماعاً سوف يعقد قريبا جدا بين وزيري الري محمد عبد العاطي، والخارجية سامح شكري، وعدد من القيادات الأمنية والمخابراتية والسيادية في الدولة لبحث تطورات تلك الأزمة، والسيناريوهات المتوقعة خلال الأيام القادمة، خاصة في ظل تأكيدات أديس أبابا بعدم وجود قوة تمنعها من ملء وتشغيل السد.
وشدد مصدر مطّلع، رفض الكشف عن هويته، على أن هناك توجهاً لدفع أعضاء في البرلمان لاستدعاء وزير الخارجية لسؤاله عن سبب توقيع اتفاقية المبادئ عام 2015، التي حرمت مصر من ميزات كثيرة، وعن إمكانية الانسحاب منها، وعن رؤية وزارته للتعامل الدبلوماسي مع الأزمة، وهل الاتفاقية التي حملت اعترافاً مصرياً بحق إثيوبيا في بناء السد وإدارته؟
وأوضح المصدر أن إعلان إثيوبيا استعدادها لملء السد بشكل أحادي، سيفاقم الأزمة بين القاهرة وأديس أبابا، خصوصاً في ظل التعنت بشأن الاستمرار في بناء السد وملئه، دون التشاور مع دولة المصب، مصر، مشيراً إلى أن الجانب الإثيوبي نجح في ترحيل الأزمة من اجتماع لآخر خلال السنوات الماضية، واستطاع أن يضع العالم كله أمام حكم الأمر الواقع، وهو ما سوف يكرس زيادة الفقر في البلاد. ويعاني نحو 32.5% من السكان في مصر من الفقر، وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
تبوير ملايين الأفدنة
تصاعدت التحذيرات من مخاطر كارثية على مصر التي تعتمد على مياه النيل في الزراعة والصناعة والمشروعات السكنية، إضافة إلى توفير مياه الشرب لما يقرب من 100 مليون نسمة.
ويرى خبير المياه ضياء القوصي أن بداية ملء سد النهضة الإثيوبي ستقلص حصة مصر المائية التي لا تكفيها حالياً، وهو ما يعرضها للعطش مستقبلاً، فضلاً عن أضرار مرتقبة في إنتاج الكهرباء من السد العالي بتوقف التوربينات لانخفاض نسبة المياه، وبوار الأراضي الزراعية، مبيناً أن كل نقص في المياه بنسبة 5 مليارات متر مكعب يقابله تبوير مليون فدان.
وحسب مراقبين ودراسات متخصصة، يتوقع أن تفقد مصر نحو 20 مليار متر مكعب من حصتها المائية البالغة نحو 55.5 مليار متر مكعب حاليا، في حال ملء سد النهضة في فترة زمنية قصيرة، أي أن مصر قد تفقد 4 ملايين فدان زراعي.
وكان نقيب الزراعيين، سيد خليفة، قد قال في وقت سابق، إن مصر ستتعرض لأضرار بالغة عند اكتمال بناء سد النهضة، منها فقدان 20 مليار متر مكعب من المياه وخسارة 50% من الثروة السمكية، موضحا أنها مهددة بخسارة 4 ملايين وظيفة جراء بناء السد.
وعاد خبير المياه ضياء القوصي ليقول إن تبوير الأراضي الزراعية سوف يكون له تأثير واضح على الأمن الغذائي، وبالتالي زيادة أسعار الحاصلات الزراعية واستيرادها من الخارج، وتشريد الملايين من عمال الزراعة، وضياع جميع مظاهر الحياة على ضفتي النيل، فضلاً عن التأثير على الأحياء المائية والأسماك، والتأثير على السياحة النيلية، خاصة بمحافظتي الأقصر وأسوان بصعيد مصر (جنوب).
وأضاف القوصي أن السد قضية شعب وحياة، والقضية لن تكون مياهاً فقط وإنما لها أبعاد سياسية بحته تتمثل في محاولة السيطرة والهيمنة على النهر، والتصريحات الخاصة بمسؤولي إثيوبيا تؤكد هدفهم في الهيمنة، وبيع المياه لمصر وشعبها، وبالتالي توقف الحياة وعلى رأسها الزراعة.
ووفق مراقبين، في حال بوار 1.8 مليون فدان فقط من الأراضي الزراعية، سيؤدي ذلك إلى فقدان 1.3 مليون فرصة عمل من إجمالي 6 ملايين و500 ألف مشتغل في قطاع الزراعة والصيد (يمثل العاملون في قطاع الزراعة والصيد 25% من عدد المشتغلين في مصر البالغ 26 مليونا عام 2017، حسب أرقام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي)،
ويحتاج توفير فرص عمل بديلة لـ1.3 مليون شخص نحو 600 مليار جنيه (قدر البنك الدولي كلفة فرصة العمل الواحدة بين 25 و30 ألف دولار، وقدرت الهيئة العامة للتنمية الصناعية متوسط كلفة فرصة العمل الواحدة في القطاع الصناعي في مصر بنحو 326 ألف جنيه – قبل تعويم الجنيه عام 2016، أي ما يعادل 35 ألف دولار).
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي عبد النبي عبد المطلب، من القاهرة، إن إقامة السد حتى لو لم تقلص حصة مصر المائية، فإنها سوف تمنع أي مطالبات مصرية مستقبلية بزيادة حصتها السنوية من المياه عن 55.5 مليار متر مكعب.
وأضاف عبد المطلب لـ”العربي الجديد”، أن هذه الكمية سوف تحد كثيرا من خطط التوسع العمراني والتنمية الزراعية في مصر على وجه الخصوص، موضحا أن ذلك قد يدفع مصر إلى زيادة الاعتماد على المياه الجوفية، خاصة في السواحل الشرقية لمصر، على البحر الأحمر، لكن هذا سيكون مرتبطا بأولويات خطط التنمية.
رعب المزارعين
أجمع عدد من الشباب الخريجين في منطقة النوبارية على خطورة الموقف على الزراعة، مؤكدين أن الرعب ينتابهم لأن نقصان المياه قد يؤدي إلى تبوير ما يقرب من مائة ألف فدان في هذه المنطقة، خاصة أن المياه الجوفية فيها شحيحة جدا وتعتمد في الأساس على النيل من ترعة ناصر.
وقال أحد كبار المهندسين الزراعيين في المنطقة، هو محمد هاشم، إن الموقف الإثيوبي لم يتغير بشأن أزمة سد النهضة، ما أدى لفشل جولات التفاوض المتتالية.
وأضاف: يبدو أن الحرب الكلامية والإعلامية بين مِصر وإثيوبيا ربما تمهد لمرحلة صعبة، مشدداً على أن السد يمثل بالنّسبة لإثيوبيا مشروعاً اقتصادياً لإنتاج الكهرباء وبيعها لدول الجِوار الأفريقي، ولكن مياه النيل الأزرق المقام عليها السد تمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى مِصر ومائة مليون من أبنائها، لأن أي نقص في حصتها سيعني تجويع خمسة ملايين فلاح مصري على الأقل.
وقال إنه من غير سد النهضة هناك تراجع في حصص المياه للفلاحين نتيجة زيادة الرقعة الزراعية في مصر وزيادة مساحات الأراضي الصحراوية التي تعتمد على مياه النيل، ومناوبات الري لم تعد كافية للفلاح، وهو ما اضطر معظم الفلاحين إلى الاعتماد على الآبار الارتوازية لاستكمال حاجتهم من المياه للزراعة.
وكشف تقرير سابق للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن انخفاض كميات مياه الري المستخدمة في الزراعة، نظرا لانخفاض المساحة المزروعة.
وبحسب التقرير، بلغت كمية المياه المستخدمة في الري عند خزان أسوان 44.6 مليار متر مكعب عام 2018، مقابل 50 مليار متر مكعب عام 2017، بنسبة انخفاض بلغت 10.8%.
وقال وزير الري المصري محمد عبد العاطي، في تصريحات صحافية، أخيرا، إن بلاده تعتمد على نهر النيل في 97% من مواردها، ويعتمد سكانها على 5% فقط من مساحتها وباقي المساحات صحراء.
بيع المياه
أكد وزير الري الأسبق، محمد نصر علام، أن ملء سد النهضة الإثيوبي سيؤدي إلى توقف محطات رفع المياه من النيل إلى الترع لري الأراضي الزراعية نتيجة نقص الشديد للمياه، فضلاً عن زيادة ملوحة الأراضي الزراعية، وبالتالي ستختفي العشرات من المحاصيل الزراعية، وسيؤدي إلى عدم توفير مياه شرب كافية.
وأوضح أن هدف إثيوبيا من بناء السد هو بيع المياه لمصر في المستقبل، معترفاً بأن هناك قلقاً متزايداً لدى المصريين على المستويين الرسمي والشعبي جراء قيام إثيوبيا بالبدء في ملء وتشغيل السد، وتعثر المفاوضات في الوقت نفسه، لكون أن المياه تمثل مسألة حياة أو موت.
وأشار علام إلى أن قرار إثيوبيا بملء السد يؤكد رغبتها في حجز المياه عن مصر، ولم تعد هناك أمور خفية على أحد والأمر مع الوقت يزداد صعوبة، ولا بد من تطبيق القانون الدولي للتوصل لاتفاق مع إثيوبيا حول ملء السد، حتى لا تفقد مصر كهرباء السد العالي، والهدف من المفاوضات التي استمرت لسنوات دون جدوى ملء السد، لافتاً إلى أن الدور الذي تقوم به دولة جنوب أفريقيا حيال مفاوضات سد النهضة ليس حيادياً بشكل كبير، ومصر وصلت للحد الأدنى من المطالب حتى الآن، مشيراً إلى أنه يخشى من أن يقوم الاتحاد الأفريقي بإحالة أزمة سد النهضة لمفاوضات أخرى، وبالتالي تظل الأزمة مستمرة بدون حلول، ووصولها إلى مرحلة اللاعودة باشتعال أزمة المياه وفرض الأمر الواقع على الجميع.
غلاء السلع والخدمات
كشف مسؤول بالمركز القومي للبحوث الزراعية، لـ”العربي الجديد”، أن من التأثيرات السلبية المتوقعة لملء سد النهضة الإثيوبي، التناقص الحاد بالمساحات المزروعة بالمحاصيل الشرهة للمياه، على رأسها زراعة قصب السكر والأرز، وهما من المحاصيل الاستراتيجية الهامة.
وأضاف المسؤول، الذي رفض ذكر اسمه: كما ستتأثر زراعة محاصيل الحبوب، مثل القمح والذرة الصفراء، والأخيرة عدم زراعتها أو تقليل المساحات المخصصة لها، سيؤديان إلى زيادة أسعار الأعلاف، وبالتالي ارتفاع أسعار اللحوم والأسماك والدواجن، ومن ضمن التأثيرات انخفاض محاصيل الخضر والفاكهة، وتحميل الاقتصاد المصري تبعات ذلك بالاستيراد من الخارج لتغطية احتياجات المواطنين، كما أن الخريطة الزراعية بالكامل ستتغير باستحداث أصناف ومحاصيل تتأقلم مع ملوحة المياه المتوقعة.
وأضاف المسؤول أن تأثيرات ملء السد لن تتوقف على الزراعة وملوحة التربة فقط، لكن ستصل إلى مياه الشرب بارتفاع الأسعار وتحديد كميات محددة لكل مواطن مثل سلع التموين (سلع مدعمة)، مشدداً على أن تحلية مياه البحر مكلفة جداً على الحكومة المصرية، واصفاً ما يحدث لمصر من ملء وتشغيل للسد بـ”الكارثة” التي ستحدث لمصر والمصريين.
وأكد أن نصيب الفرد المصري من المياه يتضاءل كل عام، ففي عام 1959 كان 2000 متر مكعب سنوياً، وانخفض ليصل نصيب الفرد إلى 500 متر عام 2019، وسط توقعات بأن يصل إلى أقل من 400 متر بحلول 2050، وهو ما يشير إلى دخول مصر وبشدة في مرحلة الفقر المائي.
وحسب مراقبين، سيؤدي نقص حصة مصر من المياه إلى عدم القدرة على إنتاج الكهرباء من محطة توليد كهرباء السد العالي، ما يعني احتمال فقدان 2100 ميغاوات يوميا من الكهرباء، هي الطاقة القصوى لإنتاج السد العالي.
المصدر: العربي الجديد – منعم سداوي