كيف استبدل لبنان ليرته المنهارة بالدولار؟

تغطي لافتات الدولار الآن مجموعة المحال التجارية الصاخبة في حي برج حمود الأرمني في بيروت، يتردد صدى هذا المشهد في جميع أنحاء لبنان مع تسجيل الليرة اللبنانية أدنى مستوياتها، لذا قرر أصحاب المحال عرض أسعارهم بالدولار الأمريكي الأكثر استقرارًا.

بجوار تلك المحال المغطاة بلافتات الدولار، كان رازميج كيوشكريان – 42 عامًا – يغير ملصقات الأسعار سريعًا في محله الصغير، يدير كيوشكريان هذا المحل مع شقيقه منذ 20 عامًا، لكن لا شيء يُقارن بالضغط الذي واجهاه في السنوات الثلاثة الأخيرة وسط الأزمة الاقتصادية بالبلاد.

واجهت الليرة اللبنانية سقوطًا حرًا، فأكبر ورقة نقدية في البلاد فئة 100 ألف ليرة أصبحت قيمتها أقل من دولار واحد، وهو سقوط عنيف بعد أن كانت 66 دولارًا قبل الأزمة المالية في 2019، سجلت الليرة اللبنانية أسوأ أداء لها في العالم هذا العام وفقًا للبيانات التي جمعتها “بلومبرغ”.

تقول ليال منصور عالمة الاقتصاد المتخصصة في البلاد المعتمدة على الدولار: “لقد فقدت الليرة اللبنانية دورها كعملة، لا نستطيع أن نتوقع أبدًا أن يستعيد لبنان الثقة في عملته اقتصاديًا أو نظريًا أو عمليًا”.

بسبب تقلب العملة الشديد، فكل يوم يمر دون أن يغير فيه كيوشكريان أسعاره يخسر أمواله، حيث يقول: “كل يوم أشبه بسباق، فأنت تذهب للنوم وتعلم كم خسرت لعدم تغييرك الأسعار، يجب تغييرها كل يوم، لكن في بعض الأيام لا أجد وقتًا كافيًا”.

منذ أن قررت الحكومة هذا الشهر السماح للمحال التجارية بكتابة ملصقات الأسعار بالدولار، يحاول كيوشكريان استخدام الدولار، فوفقًا لكلامه، يمنحك الدولار ثباتًا أكبر في الأسعار وبالتالي يمكنك حساب أرباحك وخسائرك بسهولة، ولن تواجه مشكلة كبيرة.

تقول ليلى داغر أستاذة الاقتصاد بالجامعة الأمريكية ببيروت، إن قرار السماح بوضع ملصقات الأسعار بالدولار كان من المفترض اتخاذه منذ وقت طويل، لأنه يحمي المستهلك.

وتضيف أنه باستخدام الدولار، فإن الأسعار تصبح أكثر استقرارًا ويستطيع المستهلك مقارنتها بسهولة دون الحاجة المستمرة للتغيير، وهكذا تزداد التنافسية بين المحال.

والآن، أصبحت نحو نصف بضائع كيوشكريان مسعرّة بالدولار، ويأمل في إضافة المزيد قريبًا، حيث يقول: “بالطبع سأنام بشكل أفضل إذا كانت البضائع مسعرة بالدولار”.

الفقراء يتحملون وطأة الأمر
أدى الاقتراض غير المستدام وسوء الإدارة المالية وفساد النخبة الطائفية الحاكمة، إضافة إلى سنوات طويلة من الفراغ السياسي وغياب النمو الاقتصادي الإنتاجي، إلى تعزيز أسوأ أزمة اقتصادية في العالم منذ منتصف القرن الـ19 وفقًا للبنك الدولي.

منذ 2019، فرضت البنوك اللبنانية قيودًا صارمة على السحب، ما أدى إلى غضب المودعين ولجوئهم للقضاء أو الهجوم المسلح على البنوك للحصول على أموالهم، وقد اجتمع هذا الأسبوع مئات المتظاهرين وعدد من الجنود المتقاعدين أمام برلمان البلاد واشتبكوا مع الشرطة، نظرًا لإحباطهم من المشكلات الاقتصادية المتزايدة.

في الوقت نفسه، واصلت الحكومة فرض سياساتها التي تتسبب فقط في زيادة الوضع سوءًا، تقول داغر: “زيادة معدل التضخم الذي يؤدي إلى انهيار أسرع للعملة وبالطبع فقدان القوة الشرائية، وقع نتيجة سياسات ميزانية الحكومة عام 2022”.

أعلن بنك لبنان المركزي يوم الثلاثاء عن بدء بيع كميات غير محدودة من الدولار الأمريكي بمعدل فائدة منخفض، في محاولة منه لإبطاء انخفاض العملة، لكن داغر تقول إن الكمية ليست غير محدودة، وبينما قد يساهم القرار مؤقتًا بالحد من انهيار العملة، إلا أن العملة ستصل إلى انهيار قياسي مرة أخرى قريبًا.

في بداية هذا الشهر، ضاعف لبنان – دون تحذير – الضرائب على الجمارك ثلاثة أضعاف، أملًا في ملء خزائن الدولة الفارغة، هذه الزيادة هي الثانية فقط في البلاد منذ عقود، وفي دولة تستورد أكثر من 90% من بضائعها، فإن هذا القرار سيؤدي فقط إلى زيادة الأسعار وخسارة القوة الشرائية والإضرار بالعائلات الفقيرة أو الأكثر عرضة للفقر.

في محل كيوشكريان، تسير دينيس – 42 عامًا وأم لأربعة أطفال – في ممر الشامبو متفحصة الأسعار الجديدة بالدولار وتقول: “لقد ارتفعت الأسعار كثيرًا، الأمر صعب للغاية”.

تقول دينيس إن السنوات الثلاثة الأخيرة من الأزمة وضعت أسرتها في موقف مالي صعب، فهي لا تعمل وزوجها يعمل في وظفية مؤقتة يقبض فيها راتبه بالليرة، ورغم أن أبناءها يعملون أحيانًا في وظائف بسيطة للمساعدة، فإن النقود تكفي بالكاد الطعام وإيجار البيت.

أصبحت قيمة رواتب الكثير من اللبنانيين اليوم أقل بكثير من دخلهم قبل الأزمة، ما أدى إلى فشلهم في مواكبة التضخم السريع.

أجرت الجامعة الأمريكية في بيروت دراسة عام 2021 على 931 أسرة في 7 قطاعات مختلفة في البلاد، وقد وجدت أن كل أسرة تجني فقط متوسط 3 إلى 5 ملايين ليرة في الشهر، أي نحو 30 إلى 50 دولارًا.

مع إصابة دينيس بمرض السكري، فإنها تعاني لتحمل أسعار العلاج الجديدة الباهظة بعد أن رفعت الدولة الدعم عن معظم الأدوية، وتشير دينيس إلى الطفح الجلدي الذي انتشر في أصابع يدها وقدمها نتيجة السكر وتقول: “إذا لم أتناول دوائي سيسوء الوضع، وهذا يؤلمني حقًا”.

التخلي عن الليرة؟
يدور نقاش محتدم الآن في لبنان بخصوص إذا ما كان يجب على البلاد التخلي عن الليرة، فمنذ الثمانينيات، كانت نحو 60 إلى 70% من قروض وودائع البلاد بالدولار وكانت مصنفة بأنها “كثيرة الاعتماد على الدولار”، وتقول منصور: “هذا واحد من أسوأ المؤشرات الاقتصادية”.

تضيف منصور “إذا كانت البلاد معتمدة على الدولار بنسبة صغيرة فمن الممكن معالجة الأمر، لكن في الاقتصاد اللبناني المعتمد بشدة على الدولار، لا يمكن العودة إلى الوراء وتصحيح العملة، لذا من الأفضل التخلي تمامًا عن عملتك المحلية”.

في عملية الانتقال الكامل لاستخدام الدولار، قد يقرر لبنان رسميًا التخلي عن الليرة، وتبني استخدام الدولار بسعر صرف ثابت كوسيلة للدفع ووحدة حساب.

هناك طريق آخر للتخلي عن الليرة، يسميه اقتصاديو العملة “مجلس العملة” حيث تُشكل هيئة لإصدار عملة قومية جديدة، تُنشأ وتُربط بسعر صرف ثابت وتغطى بالدولار الأمريكي بنسبة 100%.

ومع ذلك، يقول جوزيف بيطار، أستاذ الاقتصاد بمدرسة “IESEG” للإدارة في فرنسا وخبير السياسات النقدية اللبنانية، إن السوق هو الذي يقرر أي العملات يفضل استخدامها، ويضيف “يجب أن لا نتدخل في قوى السوق”.

يرى بيطار أن السوق سيتخلص من القطاعات غير المنتجة بما في ذلك الكثير من القطاع العام، الذي سيستمر الدفع له بالليرة، بينما سيفضل القطاعات المنتجة التي يُدفع لها بالدولار، ويقول: “دون إصلاح سياسي كبير، سيظل القطاع العام عقبة أمام تطور البلاد”.

لكن منصور – المؤيدة للاتجاه الكامل نحو الدولار – تقول إنه دون أي رد فعل مؤسسي، فإن جودة الخدمات اللبنانية ستستمر في التدهور، وتضيف “أزمة العملة في بلد معتمدة على الدولار لا نهاية لها”.

زيادة تفاوت الثروات
قال بعض علماء الاقتصاد إن التوجه نحو الدولار سيخلق طبقتين – من يستطيعون الوصول إلى الدولار ومن لا يستطيعون – مما يزيد من اتساع تباين الدخل في البلاد، ومع ذلك تقول داغر إن تسعير البضائع بالدولار فقط لن يؤثر على تباين الثروة، ما سيؤثر حقًا هو القدرة على الوصول إلى الدولار كمصدر للدخل أم لا.

وجدت دراسة الجامعة الأمريكية في بيروت أن 13% فقط من الأسر تستطيع الوصول إلى الدولار، بينما تبقى الغالبية العظمى دون دولار.

تقول دينيس إنها لا تستطيع تحمل نفقة إرسال طفلها الأصغر – ذي الـ8 سنوات – إلى مدرسة خاصة، وقد أغلقت مدارس لبنان العامة منذ شهر ديسمبر/كانون الأول، مع إضراب المعلمين بسبب رواتبهم المنخفضة للغاية.

على الجانب الآخر من الممر تتسوق زينة التي تقول إنه رغم صعوبة الأزمة الاقتصادية فإنها تستطيع إدارة الأمر، حيث يعمل زوجها في شركة خاصة ويتقاضى ربع راتبه بالدولار (أصبح ذلك وضعًا شائعًا في لبنان مع تقلب العملة المحلية).

تستطيع زينة وزوجها تحمل دفع رسوم شهرية قدرها 300 دولار لكل من طفليهما للتعلم في مدرسة خاصة، وهو ما لا تستطيع دينيس تحمله، وقد أصبح طفلها الأصغر خارج المدرسة منذ أشهر.

في الوقت نفسه، تتمنى ابنة دينيس – ذات الـ18 عامًا – الذهاب إلى الجامعة، لكن دينيس وزوجها لا يستطيعان تحمل نفقات الدراسة الجامعية، والآن على ابنتهما أن تبحث عن عمل بدلًا من ذلك، تقول دينيس: “لكن هذا حرام، إنها ذكية للغاية”.

 

مصدرميدل إيست آي نون بوست: حنّا دافيس
المادة السابقةالترخيص لمصارف جديدة “فريش” غير مفلسة: لِمَ لا؟!
المقالة القادمةبالأرقام: الجوع على الأبواب