تضافرت عوامل عديدة لتُغيّر الصورة في سوق النفط العالمية بشكل ملحوظ خلال الأسابيع الستة الماضية.
وبعد أن كانت أسعار النفط تعاني هبوطاً قوياً لتتداول قرب أدنى مستوياتها في عام، تحوّلت للصعود الحادّ في الأسابيع الماضية لتحقّق مكاسب تقارب 20% منذ منتصف حزيران الماضي.
تحوّل حاد للأسعار
ارتفعت أسعار النفط عند تسوية تعاملات الجمعة الماضية لأعلى مستوى منذ منتصف شهر نيسان الماضي. ونجح سعر خام برنت تسليم شهر أيلول في تجاوز مستوى 86 دولاراً للبرميل بنهاية الأسبوع الماضي. أما خام برنت تسليم الشهر التالي فصعد بنحو 14 دولاراً أو ما يعادل 20% منذ القاع المسجل في منتصف حزيران.
وواصلت أسعار النفط الصعود للأسبوع السادس على التوالي، في أطول موجة مكاسب أسبوعية في أكثر من عام. وحقّق الذهب الأسود ارتفاعاً يتجاوز 13% في شهر تموز الماضي، قبل أن يواصل الصعود في أول 4 أيام في شهر آب.
تسبّبت المكاسب القوية للنفط في الأسابيع الأخيرة في محو كل خسائره منذ بداية العام، والتي وصلت في منتصف حزيران الماضي إلى أكثر من 16%.
ضعف الإمدادات
ساهم شُح الإمدادات في صعود أسعار النفط خلال الأسابيع الأخيرة، وسط توقّعات بنقص المعروض من الخام. وفي عطلة نهاية الأسبوع الماضي، أقر الاجتماع الوزاري لمجموعة «أوبك بلس» الحفاظ على سياسة إنتاج النفط دون تغيير، لكن اللجنة أشارت إلى إمكانية اتخاذ أي تدابير إضافية في أي وقت. وجاء قرار اللجنة بعد أيام قليلة من إعلان السعودية تمديد الخفض الطوعي لإنتاج النفط والبالغ مليون برميل يومياً للشهر الثالث ليشمل نهاية شهر أيلول المقبل. وذكرت وزارة الطاقة السعودية أن الخفض الطوعي لإنتاج النفط قد يتمّ تمديده مجدداً أو تعميقه مع التمديد. كما قرّرت روسيا خفض صادراتها من النفط بمقدار 300 ألف برميل يومياً في الشهر المقبل، بعد خفض 500 ألف برميل يومياً في آب.
محللو بنك «يو بي إس» أشاروا إلى أنه بعد قرار تمديد السعودية الخفض الطوعي للإنتاج، فإنهم يتوقعون عجزاً في سوق النفط يتجاوز 1.5 مليون برميل يومياً في شهر أيلول، بعد تقديرات بعجز مليوني برميل في شهري تموز وآب. وجاءت قرارات السعودية وروسيا بعد تدابير معلنة من جانب «أوبك بلس» في شهر حزيران الماضي لتمديد خفض إنتاج النفط حتى العام المقبل.
وتبرز مخاوف نقص المعروض أيضاً مع الهبوط القوي لمخزونات النفط، حيث تراجعت مخزونات الخام في الولايات المتّحدة بوتيرة قياسية بلغت 17 مليون برميل في الأسبوع المنتهي في الثامن والعشرين من شهر تموز الماضي. على جانب موازٍ، واصلت المنصات الأميركية للتنقيب عن النفط تراجعها، حيث هبطت بنحو 96 منصة منذ بداية العام الجاري حتى نهاية الأسبوع الماضي.
تفاؤل حذر بشأن الطلب
يبدو الوضع المتعلّق بالطلب العالمي على النفط متبايناً في الوقت الحالي، مع التفاؤل الحذر بشأن قرب نهاية دورة التشديد النقدي من جانب البنوك المركزية ووضع الاقتصاد العالمي. وتشير توقعات الأسواق المالية إلى أن رفع الفائدة الأميركية من جانب مجلس الاحتياطي الفيدرالي في شهر يوليو الماضي كان الأخير، مع بيانات تشير إلى تباطؤ سوق العمل والتضخم. بينما يبدو الأمر مختلفاً بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا، مع توقّعات باستمرار رفع الفائدة للسيطرة على التضخّم.
كما تبدو صورة آفاق الاقتصاد العالمي متباينة، مع توقّعات بتجنّب الركود لكن مع تباطؤ النمو. وخفض «غولدمان ساكس» توقّعاته لاحتمالية ركود الاقتصاد الأميركي إلى 20% مقارنة بـ55% في آذار الماضي، كما أوضح «جيه بي مورجان» أنه لم يعد يتوقّع ركوداً في الولايات المتحدة هذا العام، ورفع صندوق النقد توقعاته للنمو العالمي. وفي حين أظهرت بيانات أن الاقتصاد الأميركي أضاف عدد وظائف أقلّ من المتوقع في شهر تموز الماضي، فإن معدل البطالة تراجع قرب أدنى مستوى في نصف قرن. لكن على الجانب الآخر، قالت شركة الاستثمار «إي إن جي» إن بيانات معهد الإمدادات الأميركي تشير إلى أن النشاط الصناعي في حالة ركود، بينما يعاني قطاع الخدمات توقفاً عن النمو.
كما واصل النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو تدهوره في شهر تموز الماضي، ليسجل مؤشر مديري المشتريات المركب أدنى مستوى في ثمانية أشهر عند 48.6 نقطة.
في الصين، لا يزال وضع الطلب على النفط يمثل عاملاً سلبياً للسوق، وسط تعهد البنك المركزي توجيه المزيد من الموارد المالية إلى الاقتصاد الخاص، وسط ضعف للزخم الاقتصادي مؤخراً. وقال «جيانان صن» المحلل في «إنرجي أسبكتس» إنه من المحتمل أن يكون الطلب الصيني على النفط لهذا العام قد وصل إلى ذروته عند 16.4 مليون برميل يومياً في الربع الثاني.
وتوقع نائب رئيس الوزراء الروسي «ألكسندر نوفاك» بعد اجتماع للجنة الوزارية في تحالف «أوبك بلس» الأسبوع الماضي نموّ الاستهلاك العالمي من النفط بمقدار 2.4 مليون برميل يومياً هذا العام. ويقدّر محللو «ستاندرد تشارترد» أن الطلب العالمي على النفط سيصل لمستوى قياسي في الشهر الجاري، قبل أن يرتفع لقمة جديدة في أيلول المقبل، مع استمرار الصعود في شباط وآذار وحزيران وآب 2024. كما قدّر محللو «غولدمان ساكس» أن الطلب العالمي على النفط ارتفع لمستوى قياسي جديد عند 102.8 مليون برميل يومياً في شهر تموز الماضي.
نقص المعروض يتحدّى مخاوف النمو
قال محللو بنك «ستاندرد تشارترد» إن شهري آب وأيلول سيشهدان أكبر عجز في سوق النفط هذا العام، مع احتمالية استمرار العجز حتى الربع الأول من العام المقبل. كما توقع بنك «يو بي إس» وصول خام برنت القياسي لمستوى يراوح بين 85 و90 دولاراً للبرميل في الأشهر المقبلة. ويتوقّع نموذج الطلب الخاص بالبنك عجزاً في المعروض النفطي بمقدار 2.81 مليون برميل يومياً في آب الجاري و2.43 مليون برميل في أيلول المقبل، بالإضافة إلى نقص يتجاوز مليوني برميل في شهري تشرين الثاني وكانون الأول. ويعتقد «ستاندرد تشارترد» أن المخزونات العالمية من النفط ستتراجع بنحو 310 ملايين برميل بنهاية العام الجاري وبنحو 94 مليون برميل إضافية في الربع الأول من 2024، ما سيدعم ارتفاع الأسعار.
وذكر «غولدمان ساكس» أن الطلب العالمي القوي سيدفع العجز في سوق النفط لتسجيل 1.8 مليون برميل يومياً في النصف الثاني من هذا العام و0.6 مليون برميل يومياً في العام المقبل. لكن البنك الأميركي حافظ على توقعاته لأسعار النفط عند 93 دولاراً في الاثني عشر شهراً المقبلة، مع تعويض قوة المخزونات للطلب المدعوم من تحسن آفاق الاقتصاد العالمي. وكانت وكالة الطاقة الدولية قد توقّعت وجود عجز في سوق النفط يبلغ 1.7 مليون برميل يومياً خلال النصف الثاني من هذا العام.
وفي حين تحافظ شركة «إيه إن زد ريسيرش ANZ Research» على السعر المستهدف لخام برنت عند 100 دولار للبرميل بنهاية العام الجاري، فإنها أشارت إلى وجود رياح معاكسة على جانب الطلب. وأشار محللو شركة الأبحاث إلى أنه في حين ظلّت البيانات إيجابية في الصين خلال الربع الثاني، يظل الاقتصاد مقيداً بضعف النشاط الصناعي والأزمات في قطاع العقارات.
ويعتقد محللو «إيه إن زد» أن قرارات «أوبك» بشأن الإمدادات أدّت وظيفتها ودعمت استقرار السوق، لكن إنهاء هذه الاتفاقيات في نهاية المطاف خلال الستة إلى الاثني عشر شهراً المقبلة سيخفّف من نقص المعروض الحالي.
بينما كشف مسح لوكالة «رويترز» شارك فيه 37 اقتصادياً ومحللاً أن متوسط سعر خام برنت قد يسجّل 81.95 دولاراً للبرميل في العام الجاري و83.67 دولاراً في العام المقبل. ويرى المشاركون في المسح أن ضعف النمو الاقتصادي سيقلّص الطلب على النفط ويعوّض أثر خفض الإنتاج من جانب تحالف «أوبك بلس».
المصادر: أرقام – أوبك – رويترز – بلومبرغ – بارونز – أويل برايس – ستاندرد آند بورز جلوبال