كيف سيتكيّف اقتصاد لبنان مع الحرب؟

تتراكم الأعباء فوق ما بلغته من الانهيار النقدي والمصرفي على مدى السنوات الماضية. رغم ذلك، يجد الناس أنهم أمام مهمة قسرية بالتكيّف مع الحاصل الآن، وهو سلوك اعتاده اللبنانيون مع تكرار الكوارث، والحروب المصحوبة مع قلق مفرط على المصير. وما نشهده هذه الأيام، مع توسع العدوان الإسرائيلي، سيخرج من يقول أيضاً إن اقتصاد لبنان لن يقدر على تحمّله، علماً أننا اليوم نعيش حالة إنكار إزاء قدرة الاقتصاد والمجتمع على التحمّل.يوم انهارت المصارف وبدأ عدّاد الدولار يرتفع مقابل الليرة، ارتقى لبنان إلى ذروة لم يعتدها من قبل. يومها كان فعل القتل مختلفاً؛ سواء لجهة القاتل، أو الأسلوب المُعتمد. يومها، طارت 160 مليار دولار بلمح البصر، وتراجع الناتج الاقتصادي خلال سنتين إلى ثلث ما كان عليه قبل الانهيار. وفقدت الليرة 98% من قوّتها الشرائية، وانزلق لبنان في مسار انحداري بلغ ذروته في 21 آذار 2023 حين ارتفع سعر صرف الدولار الواحد إلى 135 ألف ليرة، أي تضاعف 89 مرّة، بينما كان الرقم القياسي للأسعار يسجّل ارتفاعاً من 108 نقاط في مطلع 2019 إلى 3710 نقاط في نهاية آذار، أي تضاعف 34 مرّة.

في حينه، قرّر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، بالاتفاق مع الحكومة، تفعيل منصّة «صيرفة» واستغلالها لضخّ الدولارات في شرايين السوق وتهدئته، فأنفقوا بضعة مليارات أدّت إلى خفض سعر الصرف ليصبح على ما هو عليه اليوم، 89500 ليرة مقابل الدولار الواحد، فيما استمرّت الأسعار بالارتفاع لتتضاعف في نهاية آب 61 مرّة. عملياً، جرى التلاعب بسعر الصرف عبر آلية تنشيف السوق من الليرات بواسطة الضرائب لخفضه، بينما تُركت الأسعار تأخذ مداها الأقصى. سُحق المجتمع بضغط مالي هائل، لكن فجأة ظهر تفاعل الناس بأشكال مختلفة، من أبرزها الهجرة الجماعية أو العائلية، ثم تحوّلت التحويلات الآتية من المهاجرين، إلى لاعب مركزي في تمويل عملية الاستهلاك والتي تركّزت على ما هو مُستورد.

اليوم، سريعاً بدأ المجتمع في حالة التكيّف. البحث عن المواد الأولية أساسي. بعض محطات الوقود شهدت زحمة متوسطة لم تصل بمستواها إلى ما سجّلته أثناء السقوط الحرّ في سنوات ما بعد الانهيار. ولم يتحوّل البحث عن المواد الغذائية إلى عنصر ضاغط على الأسر التي تبحث عن الأمان من جرائم يعدّ لها العدوّ. الأموال ليست هي المشكلة الأكبر في اقتصاد تعتمد فيه الأسر على تحويلات مغتربيها والتي يبلغ مجموعها السنوي نحو 7 مليارات دولار. التفاوتات بين الفئات الاجتماعية موجودة وكبيرة، لكنّ المجتمع المدني المُموّل حزبياً قادر على التخفيف من وقعها بسهولة خلال وقت قصير. أما سعر الصرف، فكما يقول العارفون في مصرف لبنان وخارجه، فلن تظهر عليه علامات الإعياء الآن، إذ إن الحاجات الشهرية للدولة التي تراوح بين 200 مليون دولار و250 مليوناً شهرياً ستبقى مؤمّنة لفترة طويلة، وإن كان مصرف لبنان قد جمع احتياطات بالعملة الأجنبية بقيمة تفوق 1.8 مليار دولار، أي إنه قادر على تأمين هذه الحاجات لفترة طويلة. المشكلة ستظهر عندما تتوقف الحرب، وتظهر الحاجات لإعادة الإعمار والتعويض. بمعنى ما، إن الاقتصاد لن يتراجع أكثر من تراجعه الحالي، فهو يقوم بشكل شبه كامل على التحويلات والمساعدات الإنسانية والقروض الخارجية. وليس هناك نشاط اقتصادي يعوّل عليه لمنح الاقتصاد زخماً وقوّة، بل هناك نشاط قائم على الهجرة ومردودها. حتى إن مردود الهجرة السنوي قد يزداد أثناء الأزمات الكبرى مثل الحروب، لأن المغتربين يركّزون على مصير أقاربهم فيزيدون من قيمة التحويلات.

الآن، يُنتظر من السلطة التي تعاملت مع الانهيار بإنكار، أن تستجيب لحاجات طارئة وضرورية. وخطّة السلطة المسماة خطة الاستعداد والاستجابة الإنسانية، قامت على سيناريوهين: الأول يتصل بصراع غير منضبط، والثاني وهو المُرجّح، ويتعلق بصراع مقدور التحكّم به.

الواضح الآن، أن نحو 350 ألف شخص اضطروا إلى النزوح القسري، بكلفة تبلغ 146 مليون دولار. أما الأسوأ، فيبزر في حال طاول النزوح مليون شخص بكلفة 307 ملايين دولار. وهذا الأمر يشمل أولويات الأمن الغذائي التي تشمل وجبات جاهزة لنحو 250 ألف فرد لمدّة 15 يوماً، وسلة استهلاكية شهرية لنحو 126 ألف أسرة، ومنتجات طازجة لنحو 132 ألف فرد. بالإضافة إلى توزيع مساعدات نقدية بنسبة 80% من الدخل الأساسي للشهر الأول، وشراء مخزون طوارئ من الأدوية الأساسية ومجموعات العلاج المتنوعة، وتوفير المياه للاستعمال، ومياه الشرب، وتجهيز 200 وحدة إيواء ضمن المواقع الجماعية، بالإضافة إلى تخزين مكمّلات غذائية لنحو 18 ألف طفل و4300 أم… الخطة على الورق تبدو جيدة وليست مكلفة نسبياً، إنما وهي قد تكون بسيطة للتجهيزات التي وضعها حزب الله قيد الاحتياط والتنفيذ ربطاً بيوم كهذا. لذا لا يبدو أن التكيّف في حالة الحرب سيكون بطيئاً، باستثناء بعض التوترات الداخلية والتفاوتات الطبقية والسياسية بين الفئات الاجتماعية النازحة والتعامل معها.

مصدرجريدة الأخبار - محمد وهبة
المادة السابقةشركات اعادة التأمين رفعت الاسعار بسبب الحرب
المقالة القادمةبعد التطورات.. هل من أزمة محروقات؟