مع تشكيل حكومة جديدة في لبنان بعد انتخاب رئيس للجمهورية، تظهر الفرصة لبناء نهج جديد يعيد صياغة دور لبنان الوطني والإقليمي. تواجه الحكومة تحديات هائلة، لكنها تمتلك فرصة تاريخية لإطلاق تحول اقتصادي واجتماعي يعيد للبلاد مكانتها ويضعها على طريق النمو المستدام، خاصة من خلال التحول إلى اقتصاد المعرفة الذي يمكن أن يصبح محركاً أساسياً للنهوض الوطني والتكامل الإقليمي.
إن حكومة واحدة، قد لا تعمّر أبعد من الانتخابات النيابية المقبلة، مهما كان شكلها، لا يمكنها تحقيق خطوات واسعة للنهوض، لكنها بلا شك يمكن أن ترسي أساسات النهوض والتنمية المستدامة.
أولويات وطنية عاجلة
لا شك أن أمام أي حكومة جديدة أولويات عاجلة للتأسيس لمرحلة النهوض، تتضمن:
1. معالجة الأزمة المالية: اعتماد خطة إنقاذ مالي تعيد الاستقرار إلى القطاع المصرفي وتعزز ثقة المواطنين والمستثمرين وتحمي الى حد كبير الودائع المتبخرة، أو ما تبقى منها.
2. مكافحة الفساد: تفعيل القضاء المستقل والأجهزة الرقابية وضمان الشفافية في الإدارة العامة، وإعادة تأهيل العاملين في القطاع العام واجتذاب الكفاءات الجديدة والمنزهة.
3. إعادة الإعمار والبنية التحتية: إعادة إعمار المناطق المهدمة بسبب الحرب، وتحسين قطاعات الكهرباء، والمياه، والتكنولوجيا، والنقل لتوفير أساس اقتصادي متين.
4. السيادة والأمن: توحيد القرار الدفاعي ضمن رؤية وطنية شاملة تعزز الاستقرار الداخلي وتحمي البلاد من التهديدات الخارجية، وبخاصة الأطماع الإسرائيلية.
اقتصاد المعرفة: قاطرة النمو الاقتصادي
التحول إلى اقتصاد المعرفة ليس ترفاً بل ضرورة، في ظل الفجوة الكبيرة بين عدد الخريجين الجامعيين (أكثر من 35 ألف سنوياً) وعدد الوظائف الجديدة التي توفرها السوق المحلية (أقل من 5 آلاف وظيفة). هذه المعطيات تستدعي تغييراً جذرياً في هيكل الاقتصاد اللبناني.
− العمل عن بُعد: مع انتشار التكنولوجيا، يمكن للبنانيين الاستفادة من فرص عمل عالمية دون مغادرة البلاد، مما يساهم في تقليل هجرة العقول والمواهب.
− إمكانات غير محدودة للنمو: على عكس القطاعات التقليدية، يتميز قطاع المعرفة بقدرته على النمو السريع دون الحاجة إلى مساحات واسعة أو أسواق محلية أو إقليمية كبيرة، أو استثمارات ضخمة.
− تحديث القطاعات التقليدية: التكنولوجيا الحديثة يمكن أن تعزز الإنتاجية في الزراعة، والصناعة، والخدمات على أنواعها، وتجعلها أكثر تنافسية وابتكاراً. وبالتالي تلغي الصراع التقليدي بين يمين اقتصادي يدعو الى تعزيز قطاع الخدمات، ويسار اقتصادي يدعو الى تعزيز قطاعات الإنتاج التقليدية. فتقوم بتطوير القيمة التنافسية في كل قطاع، وتسهم في خلق قطاع معرفي جديد واسع المدى بمعايير عالمية.
دور لبنان الإقليمي في اقتصاد المعرفة
لبنان ليس فقط بوابة لإعادة إعمار دول الجوار مثل سورية والعراق، بل يمكن أن يكون رائداً في إدخال المنطقة إلى عصر اقتصاد المعرفة.
− نقل المعرفة والخبرة: يمكن للبنان أن يساهم في تدريب كوادر بشرية لدول المنطقة بفضل خبراته ورأسماله البشري المتميز.
− التكامل مع أسواق المشرق العربي: تعزيز سوق اقتصادية موحدة بين لبنان، سورية، العراق، والأردن، وما تبقى من فلسطين، بما يخلق فرص عمل ويوفر بيئة استثمارية جاذبة.
− التعاون مع دول الخليج: “شراكات” استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي وحوض البحر الأحمر للاستفادة من القدرات المالية والتكنولوجية المشتركة. وإقامة توازن مع دول الجوار في تركيا وإيران لتخفيف السيطرة الاقتصادية على دول المشرق العربي.
مستلزمات التحول إلى اقتصاد المعرفة
لتحقيق التحول إلى اقتصاد المعرفة، هناك حاجة ماسة الى التركيز على خمسة محاور أساسية:
1. التربية والتعليم
− تحديث المناهج التعليمية لتشمل مهارات المستقبل مثل البرمجة، الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، والكفايات الجديدة المطلوبة في سوق العمل مثل أنماط التفكير الحديث والقيادة والريادة والمواطنة والمعرفة الرقمية والذكاء العاطفي والكفايات الاجتماعية واحترام التنوع وتعزيز البحث العلمي والاستقلال الفكري واحترام القيم المجتمعية.
− تعزيز “الشراكات” بين الجامعات اللبنانية والمؤسسات العربية والدولية لتوفير تعليم يتمشى مع معايير السوق العالمية.
− تشجيع ريادة الأعمال بين الشباب لتأسيس شركات ناشئة تدعم الابتكار والتجديد.
2. البنية التحتية التكنولوجية
− تطوير شبكة إنترنت فائقة السرعة تغطي كامل البلاد لدعم العمل عن بعد والتعليم الإلكتروني والتواصل وتحليل البيانات.
− إنشاء مراكز بحث وابتكار حديثة لتطوير تطبيقات ومنتجات تنافسية على المستوى العالمي.
− تعزيز التحول الرقمي في القطاعين العام والخاص لتحسين الكفاءة والخدمات.
3. البيئة الاستثمارية
− توفير حوافز ضريبية وتشريعية لجذب المستثمرين في قطاعات التكنولوجيا والابتكار.
− دعم الشركات الناشئة من خلال تسهيل الوصول إلى التمويل السهل والمخاطر والإرشاد المهني.
− خلق منصات تعاونية تربط المستثمرين بالمبدعين المحليين.
4. البيئة التشريعية
− تطوير قوانين حماية الملكية الفكرية لتشجيع الابتكار.
− إنشاء أطر قانونية تنظم الاقتصاد الرقمي، مثل التجارة الإلكترونية والعمل الحر.
− تبسيط الإجراءات الإدارية والبيروقراطية لزيادة جذب الاستثمارات.
5. التعاون والتكامل الإقليمي
− تعزيز “شراكات” إقليمية في مجال التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الكبيرة والتعليم والتدريب والبحث العلمي.
− المساهمة في تطوير البنية التحتية التكنولوجية لدول الجوار عبر خبرات لبنانية.
− دعم سوق مشرقي موحد يكون قادراً على التنافس مع الأسواق الاقليمية والعالمية في مجالات المعرفة والابتكار.
− اعادة تشغيل انبوب النفط العراقي عبر الشام، واستقدام الكهرباء من الاردن، ولاحقا بحث الربط الكهربائي والتكامل في مجالات النقل والخدمات اللوجستية والمرافئ والطاقة مع دول المشرق العربي.
الشفافية والحوكمة: أساس العدالة والإنتاج المستدام
الشفافية والحوكمة الرشيدة هما ركيزتا الثقة بالمؤسسات وضمان العدالة الاجتماعية. مكافحة الفساد تتطلب إدارة شفافة للموارد وتوزيعاً عادلاً للخدمات. توسيع مفهوم الإنتاج ليشمل الفكر والمعرفة يعزز دور الإبداع في الاقتصاد، مع ضمان حماية الحريات والحقوق الأساسية كحرية التعبير والإعلام. العدالة الاجتماعية تستوجب تمكين الجميع، بخاصة الشباب والمرأة، للمساهمة في الإنتاج. كما أن الشفافية في إدارة قطاع النفط والغاز ومشاريع الطاقة تضمن استغلال هذه الموارد بما يخدم المصلحة العامة، ويوفر عائدات تعزز التنمية المستدامة. الحوكمة تعزز أيضاً التعاون الإقليمي من خلال سياسات عادلة ومشروعات مشتركة، ما يفتح آفاقاً جديدة للنهوض الوطني والإقليمي.
رؤية للمستقبل
لبنان يمتلك فرصة تاريخية لإعادة صياغة دوره الوطني والإقليمي عبر إصلاح قطاعه العام ومعالجة أزماته الملحة والمتعددة من جهة، ومن جهة أخرى العمل للتحول إلى اقتصاد المعرفة والتكامل مع محيطه. بتطوير التعليم، والبنية التحتية التكنولوجية، والبيئة الاستثمارية، والتشريعات اللازمة، يمكن للبنان أن يصبح نموذجاً رائداً للنهوض في المنطقة، ومركزاً إقليمياً للابتكار والإبداع، مساهماً في بناء مستقبل مشرق ومستدام لجميع كيانات المشرق العربي، بغض النظر عن النظم السياسية واختلافاتها.