باتت أيام رياض سلامة في حاكمية مصرف لبنان معدودة، وسقفها أن ينهي ولايته حتى آخر يوم في نهاية تموز المقبل. مصير الرجل بات من موضوعات التاريخ والعدالة، لا من شؤون المستقبل. لكنّ المؤرق هو مصير مصرف لبنان، الذي ينبغي إيجاد سبيل لإخراجه من زمن رياض سلامة بسلام.
قال رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يوماً إنّ “القائد” لا يغيّر ضبّاطه خلال المعركة، فكيف إذا سقط الضابط الوحيد بفضيحة وما من قائدٍ ليُختار بديلاً؟
من يخلف سلامة؟
يحكى عن أسماء متداولة للمنصب، يتقدّمها على ما يبدو الوزير السابق كميل أبو سليمان. ويُقال إنّ اسمه جزء من تسوية إقليمية ودولية يُؤمل أن تنضج قبل نهاية تموز. لكنّ المسألة أكبر من النقاش في الأسماء. ثمّة وهمٌ كبيرٌ في لبنان بأنّ التطبيع السعودي – الإيراني يمكن أن يُنهي الأزمة الاقتصادية في يومين. وفي هذا تسخيف لحجم الأزمة. ثمّة تجارب ماثلة في المنطقة تعطي فكرة عن مدى صعوبة الشروط الموضوعية للخروج من الأزمة.
مصر تعيش مرحلة ذهبية من الاستقرار السياسي والأمني، ولديها علاقات استراتيجية متينة مع دول الخليج، ولديها حلفاؤها وموقعها في الساحة الدولية. ومع ذلك تجد نفسها أمام ضرورات إصلاحية مريرة للحصول على الدفعة الثانية من قرض صندوق النقد الدولي، واستمرار الدعم المالي من الدول العربية والجهات المانحة، يُذكر منها صراحة أو مواربة: تعويم الجنيه والسير بخصخصة الشركات الحكومية وتأجيل بعض المشروعات القومية وتقليص دور المؤسّسات التابعة للقوات المسلّحة في الاقتصاد.
تونس أيضاً تواجه موقفاً أصعب في ظلّ رفض رئيسها قيس سعيّد لِما يعتبره “إملاءات” من صندوق النقد. وهي أيضاً دولة فيها مؤسّسات فاعلة، ولا تعيش ما يعيشه لبنان من فراغ رئاسي وحكومي، وتعثّر للمالية العامّة، وأزمة نقدية ومصرفية.
يكفي هذان المثالان للإشارة إلى أنّ التسوية الإقليمية لن تُغني عن إصلاح عميق ومؤلم للسياسة النقدية، أوّل شروطه خروج مصرف لبنان الآمن من رياض سلامة، ليس فقط بما يمثّل من نهج في إدارة الاحتياطيّات الأجنبية ومراكمة فجوة هائلة من الخسائر، بل الأهمّ من ذلك نمط التعاطي مع السلطة السياسية، وتوفير التمويل لنفقات الدولة، وعلاقات المصالح مع مراكز القوى والقطاعات الاقتصادية المختلفة.
كميل أبو سليمان رجل القانون
من يطرح اسم كميل أبو سليمان لا شكّ أنّه ينظر أساساً في السيرة الذاتية لرجل قانون يُرتجى منه أن يأتي ليُرسي معايير الحوكمة والإفصاح في البنك المركزي، وينظّفه من سياسة إخفاء البيانات وتقارير التدقيق الخارجي، ومن الممارسات الغامضة وتعارض المصالح وشبهات غسل الأموال، وربّما يتوسّع الأمر لتُدرَج في سلّم الاهتمامات حقائب الدولارات التي تدخل البلاد لتمويل “حزب الله”، والتي اكتسب سلامة كثيراً من حصانته بغضّه الطرْف عنها.
لكنّ المنتظر من خليفة رياض سلامة أكثر من ذلك بكثير. فوقف الانهيار النقدي لا يكفيه “البروفايل” القانوني الموثوق، بل لا بدّ له من استراتيجية وأدوات لإدارة السياسة النقدية.
المصرف المركزي، في أيّ بلد، لديه مهمّة أساسية هي ضمان الاستقرار النقدي والحفاظ على استقرار الأسعار، أي إبقاء التضخّم ضمن هامش مستهدَف على المدى البعيد. فعندما يتولّى حاكم جديد المسؤولية سيكون السؤال الأول: ما الأدوات التي يملكها للتصدّي لانهيار الليرة وخفض التضخّم من الأرقام ذات الثلاث خانات أو أكثر إلى مستويات تقلّ عن 20% في مرحلة أولى.
ولتحقيق هذه المهمّة يتحرّك البنك المركزي بأداتين أساسيّتين لإدارة معروض النقد هما: مستويات الفائدة وأدوات إدارة السيولة في القطاع المصرفي.
مصرف لبنان فقدَ أدواته
المأزق الكبير هنا أنّ مصرف لبنان فقدَ كلّ أدواته. الفائدة لم تعُد موجودة كأداة في إدارة الوضع النقدي منذ أن خرج النظام المصرفي من الخدمة، وتمّ فرض معدّلات فائدة منخفضة وهمية لا تعترف بشروط السوق. ويمكن استذكار سذاجة النظريّات التي طرحها فريق رئيس الجمهورية السابق ميشال عون أواخر عام 2019، حين طلبوا تصفير الفائدة بقرارات “من فوق”، من دون فهم كيفية عمل أسواق النقد.
وينطبق الأمر نفسه على أدوات إدارة السيولة، فمصرف لبنان بات متعثّراً ومتوقّفاً عن السداد، ولم يعد قادراً على التدخّل بطرح الأذونات أو استقبال الإيداعات، لأنّه لم يعد يمتلك سعر فائدة أو نافذة حسم.
يُضاف إلى ذلك أنّ الجهاز المصرفي لم يعد موجوداً كوسيط في النظام المالي. فمحفظة الودائع معروف حالها، ومحفظة القروض والسِّلف تقلّصت بنسبة ثمانين في المئة منذ عام 2019، ولم تعد البنوك قادرة على منح قروض جديدة، بسبب انقطاع موارد التمويل عنها (الودائع وغيرها)، وسقوط الثقة بها.
وأكثر من ذلك، هل تتحمّل الدولة وجود حاكم يحصر دور مصرف لبنان في ما خُلق له، فلا يحلّ بدلاً منها في المسؤولية عن توفير رواتب موظّفي القطاع العامّ، والأموال المطلوبة لدعم الخبز وشراء الفيول؟ يتطلّب الأمر وجود وزارة مالية تتحمّل مسؤولية توفير التمويل للإنفاق العامّ. وتلك مهمّة مستحيلة في ظلّ تعثّر الدولة وبقائها خارج أسواق رأس المال منذ آذار 2020.
لعلّ السؤال الأساسي الذي سيكون على الحاكم العتيد أن يطرحه: هل يكون لديه متّسع من الوقت لتنظيف البنك المركزي من ماضيه، فيما هو تحت ضغط لجم انهيار الليرة من دون أدوات، وتحت ضغط دولة مفلسة ترمي إليه مسؤولية الحكم والإنفاق؟