في مقابل التمييز بين ودائع مؤهلة واخرى غير مؤهلة وما يفرضه هذا الاقتراح من غبن وعدم مساواة بين المودعين، هناك اقتراح أيضاً لفصل الودائع بين مشروعة وغير مشروعة بهدف تقليص حجم الفجوة المالية في النظام المالي البالغة 73 مليار دولار.
وعرّف اقتراح قانون معجّل مكرّر أعدّته لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت وتقدم به النائب فراس حمدان في شباط 2023، الوديعة غير المشروعة على أنها تلك المتأتيّة من أعمال محظّرة بموجب القوانين والأنظمة وسيّما تلك التي تكوّنت جزئيّاً أو بكاملها من أموال غير مشروعة ناتجة عن ارتكاب أو محاولة ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادة الأولى من القانون رقم 44 تاريخ 24/11/2015 (تبييض الأموال)، علماً أنه اعتمد قرينة قوامها أن الوديعة أو العملية تكون مشروعة في حال لم تتجاوز مبالغ معينة وفق الحالات (250 ألف دولار، أو 500 مليون ليرة لبنانية للحساب الواحد أو العمليّة الواحدة، و750 ألف دولار أو مليار ليرة لبنانية للحساب المجمّع مع الأزواج و/أو الأولاد القاصرين و/أو الحسابات العائدة لهم كصاحب حقّ اقتصادي).
ولم يكتفِ الاقتراح في معالجة النقص في تعريف الوديعة غير المشروعة، إنما عمل أيضاً على وضع آليات للتثبّت من وضعيّتها. فقد جاء فيه أنّ الجهاز المعنيّ في المصرف يتقدّم بتصريح يرفق به مستندات تثبت مشروعية ومصدر الودائع المشار إليها أعلاه خلال مهلة ثلاثة أشهر تحت طائلة الملاحقة والمساءلة، على أن تُحال هذه التصاريح إلى لجنة الرقابة على المصارف، التي بدورها تُبدي بالتعاون والتنسيق مع لجنة التحقيق الخاصة رأيها حول مشروعية الوديعة على أن يكون للمحكمة قرار البتّ النهائي.
لم تكن المصارف تدقق كفاية
من جهته، أوضح الخبير المصرفي جان رياشي انه من الطبيعي في بلد نُهب طوال سنوات عدّة، ان تكون معظم الاموال المنهوبة موجودة في القطاع المصرفي اللبناني، لان المصارف لم تكن تدقق بشكل كبير بمصادر الاموال وتبيّن لاحقا ان هناك بعضاً من موظفي القطاع العام يملكون حسابات بودائع كبيرة لا تتطابق مع رواتبهم، وبالتالي هناك شبهات حولها تتيح التدقيق بشرعيتها. مشدداً في الوقت نفسه على ان إثبات عدم شرعية وديعة ما ليس بالامر السهل كما يشيع البعض ولا يتمّ خلال 6 أشهر كما يتم الترويج له، بل انه مسار طويل يستغرق سنوات عديدة.
واشار رياشي الى ان التدقيق في حسابات موظفي القطاع العام أمر ممكن، من خلال قانون الاثراء غير المشروع الذي يفرض على المتهم إثبات شرعية امواله. وبما انه يحق لكل متّهم بالدفاع عن نفسه واللجوء الى القضاء لنقض اتهامه بعدم شرعية امواله، فان تصنيف تلك الودائع على انها غير شرعية يستغرق وقتاً طويلا ومساراً قضائياً يصدر كلمة الفصل.
اما حسابات الافراد من خارج القطاع العام، فان إثبات عدم شرعية ودائعهم يقع على عاتق الجهة التي تتهمهم، «وهي عملية أصعب بكثير، خصوصاً ان عمليات تبييض الاموال على سبيل المثال، تحتاج لعمل دؤوب يستغرق سنوات من اجل إثباتها».
واعتبر رياشي ان طلب التدقيق في الودائع المشكوك بها لن يكون بمبادرة من المصارف لان احداً منها لن يعترف بممارساته الخاطئة ومخالفة القوانين ولن يسمح بتوريط نفسه واتهام نفسه. وبالتالي، فان التدقيق في تلك الحسابات يجب ان تقوم به جهة مستقلّة، علماً ان هذا الاجراء يتطلب تمويلاً كبيراً ويستغرق ايضاً وقتاً طويلاً، مع الاشارة الى وجود حق النقض لدى المتهمين ولجوئهم الى القضاء.
لذلك، اقترح رياشي، انشاء صندوق لاسترداد الودائع يمكن حفظ الودائع المشكوك بأمرها فيه، ويُمنح اصحاب تلك الودائع سندات بقيمة وديعتهم من اجل حفظ حقهم، على ان لا يحق لهم التصرّف بها الى حين اكتمال التدقيق والتحقيق القضائي لاثبات شرعية ودائعهم من عدمها. وفي حال تبيّن، بعد سنوات، ان تلك الودائع غير شرعية، يمكن استعادة السندات وشطب الودائع.
خفة واستسهال
في هذا الاطار، اوضح رئيس مؤسسة Justicia الحقوقية في بيروت والعميد في الجامعة الدولية للاعمال في ستراسبورغ المحامي د. بول مرقص ان تعبير الاموال المشروعة هو تعبير يحمل في دلالاته أبعاداً خطيرة جدّاً وهو يعني ان ثمّة ودائع في المصارف ناتجة عن جرائم بمفهوم قانون مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب رقم 44 تاريخ 24/11/2015 في المادة الأولى منه. علماً «أنّ هذا التعبير يستخدم بخفة واستسهال من دون استقراء تلك الأبعاد» وهذه الجرائم المنصوص عنها في المادة المذكورة متمثلة بزراعة او تصنيع او الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية وفقاً للقوانين اللبنانية. أو حتى المشاركة في جمعيات غير مشروعة بقصد ارتكاب الجنايات والجنح.إمّا الارهاب وفقاً لاحكام القوانين اللبنانية، أو القيام بتمويل الارهاب او الاعمال الارهابية والاعمال المرتبطة بها (السفر – التنظيم – التدريب – التجنيد…) او تمويل الافراد او المنظمات الارهابية وفقاً لاحكام القوانين اللبنانية. أو تبييض أموال من خلال الاتجار غير المشروع بالاسلحة. أو الخطف بقوة السلاح او بأي وسيلة اخرى. استغلال المعلومات المميزة وافشاء الاسرار وعرقلة حرية البيوع بالمزايدة والمضاربات غير المشروعة. أو تبييض أموال من خلال الحض على الفجور والتعرض للاخلاق والآداب العامة عن طريق عصابات منظمة. الفساد بما في ذلك الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة واساءة استعمال السلطة والاثراء غير المشروع. السرقة واساءة الائتمان والاختلاس. الاحتيال بما فيها جرائم الافلاس الاحتيالي أو تزوير المستندات والاسناد العامة والخاصة بما فيها الشيكات وبطاقات الائتمان على انواعها وتزييف العملة والطوابع واوراق التمغة. التهريب وفقاً لاحكام قانون الجمارك، تقليد السلع والغش في الاتجار بها.القرصنة الواقعة على الملاحة الجوية والبحرية. أو الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، الاستغلال الجنسي بما في ذلك الاستغلال الجنسي للاطفال. أو جرائم البيئة، الابتزاز، القتل، التهرب الضريبي وفقاً للقوانين اللبنانية.
وقال لـ»نداء الوطن»: «إذا كان مقصوداً بالودائع غير المشروعة تلك الناتجة عن جرائم تبييض الاموال المذكورة لما كان من المفترض ان تودع تلك الاموال في المصارف من الاساس، وبالتالي، لا تكون معالجة تلك الودائع بتعريفها غير مشروعة بل يجب مصادرتها وملاحقة أصحابها في حال ثبت فعلاً أنها ناتجة عن مصادر جرمية، «ولكن الاغلب ان هذا التعبير يستخدم اليوم من دون الامعان المسبق بما يعنيه».
أضاف مرقص: هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان هي المولجة بالتحقيق بمصادر الاموال في حال وجود شبهة جدّية حولها، إما بمبادرة فردية منها نتيجة تحقيقاتها، وإما بمبادرة من المصارف التي تطلب منها القيام بالتحقيق.
وشدد ردّا على سؤال ان الحسابات الراقدة (comptes dormants) لا تعتبر حسابات غير مشروعة لانها غير ناتجة عن مصادر جرمية بمفهوم القانون 44.
ورأى انه «طالما ان تعريف الودائع غير المشروعة مغلوط، فان التخطيط سيكون مغلوطاً هو الآخر. اما طريقة المعالجة والتصدّي لهذه الاشكالية، فلا تكون من خلال شطب تلك الودائع إنما بمصادرتها لان القانون 44 ينصّ على آلية مصادرة وضبط هذه الاموال»وذلك سنداً للمادة 14 من القانون المذكور التي ورد فيها أن الأموال تصادر لمصلحة الدولة في حال كانت الأموال منقولة أو غير منقولة إذا ثبت بحكم نهائي أنها متعلقة بجرم تبييض الأموال أو تمويل الإرهاب. ويمكن اقتسام الأموال المذكورة المصادرة مع دول أخرى عندما تكون التحقيقات قد جرت بالتعاون بين السلطات اللبنانية والجهة الأجنبية المعنية.
وفقا لما ذُكِر، فان المسؤولية ستقع، في حال إثبات عدم شرعية تلك الودائع، على اصحاب المصارف الذين تهاونوا وخالفوا القوانين المصرفية وسمحوا بايداع اموال غير مشروعة من دون التأكد من شرعية مصادرها ومن دون تطبيق دقيق لممارسات «أعرف عميلك» (NYC) التي تعتمد على 4 عناصر اساسية هي سياسة القبول، واجراءات تحديد الهوية، ومراقبة المعاملات وادارة المخاطر. وبالتالي عند لجوء المصارف الى طلب التدقيق والتحقق من ودائع مشكوك بشرعيتها، او في حال مبادرة هيئة التحقيق الخاصة الى التحقق والتدقيق، فان المسؤولية ستقع على الجهتين لمخالفتهما القوانين والسماح لتلك الودائع بولوج القطاع المصرفي مما سيعرّضها هي الاخرى الى جانب اصحاب الودائع الى الملاحقة القانونية بالاضافة الى اتهامها بعدم مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب او التعاون مع مرتكبي تلك الجرائم وتسهيل اتمام عمليات تبييض الاموال وغيرها من الجرائم التي تجرّمها القوانين النافذة. مما يطرح السؤال: من سيورّط نفسه في هذا المسار ويفضح او يكشف عن اصحاب الودائع المشبوهة؟
مجرد قبول الوديعة فهي مشروعة
في هذا السياق، أكد الوزير السابق والمصرفي رائد خوري ان مجرّد قبول الودائع في القطاع المصرفي يعني ان تلك الاموال مشروعة، وبالتالي من غير المنطقي اليوم اعادة تصنيف الودائع على انها غير مشروعة، علماً انه لا توجد آلية واضحة لتصنيف تلك الودائع وتعريفها.
وقال لـ»نداء الوطن»: «في حال كان المقصود ودائع غير المقيمين المتهرّبين من الضرائب، فان تلك الودائع كانت تستقبلها المصارف، ومن الصعب جدّا إثبات شرعيتها او عدم شرعيتها اليوم. إذا كان احد اصحاب تلك الحسابات، على سبيل المثال، يعمل في الخارج بمجال المقاولات وقام بصفقات وسمسرات، كيف لنا ان نؤكد هذا الامر؟» موضحاً ان طلب تثبيت شرعية الودائع اي مصادر تلك الاموال امر شبه مستحيل، خصوصاً انها تعود لزمن بعيد ولا يحق لاحد اعادة طلب مستندات تثبت مصادر تلك الاموال.
اما في ما يتعلّق بحسابات المقيمين والودائع المشكوك بأمرها، فان قانون الاثراء غير المشروع المطبّق على موظفي القطاع العام، يمكن ان يُستند الى احكامه من اجل إثبات عدم شرعية تلك الودائع، كما ان التدقيق في حسابات مودعين من خارج القطاع العام، على غرار المتهرّبين من الضرائب وغيرهم، أمر قابل للتطبيق نظرياً، لكن صعب التحقيق فعلياً، رغم ان المصارف او هيئة الرقابة يمكن ان تعيد التدقيق في الحسابات المصرفية، إلا انها عملية بغاية الصعوبة.
وفيما رأى خوري ان اقتراح التصنيف بين ودائع مشروعة وغير مشروعة يأتي أيضا ضمن سلّة الاقتراحات الشعبوية غير القابلة للتطبيق على ارض الواقع، اكد ان إثبات عدم شرعية أي وديعة، في حال حصوله، تطال عواقبه ويتحمّل مسؤوليته مجمل القطاع المصرفي وليس فقط صاحب الوديعة.