وفيما أضعف تغيّرُ المناخ الإقليمي والعالمي التدفقات المالية الى لبنان منذ العام 2015، رأت كبيرة الاقتصاديين في مصرف «جيفريز إنترناشيونال» عليا مبيّض أنّ ذلك «أدّى الى زيادة هشاشة المنظومة الاقتصادية وجعل الأسواق تعيد تسعير المخاطر في لبنان تدريجاً، وربطها بشكل وثيق بالتقلبات السياسية والجيوسياسية في المنطقة والتي تؤثر بشكل مباشر في قدرة السلطات على تطبيق الإصلاحات. وبالتالي فإنّ الأسواق تأخذ بالاعتبار كل هذه العوامل مجتمعة في تقييمها».
وفي ظلّ التطورات الأخيرة المتلاحقة من إعلان وزير المالية عن إعادة هيكلة الدين العام وخفض «موديز» لتصنيف لبنان، أكدت مبيّض لـ«الجمهورية» أنّ تقييمَ المستثمرين للمخاطر المحدِقة بلبنان تأثر أخيراً بهذه الأحداث، متسبّباً بارتفاع كلفة الإستدانة للدولة اللبنانية، «إلّا أنّ إعادة النظر بالتصنيف كانت متوقعة من الأسواق نظراً للتدهور المستمرّ لمؤشرات الاقتصاد الكلّي، ولا سيما اتّساع عجز الميزان التجاري وعجز الموازنة العامة في ظلّ ضمور النموّ وبالتالي تفاقم ديناميكية غير مُستدامة للدين العام. فالمستثمرون يتابعون عن كثب جدول وتوقيت تقارير مؤسسات التصنيف في كل بلد ويمكنهم تكهّنَ واستباقَ قراراتها».
تابعت: أما بالنسبة الى الحديث عن إعادة الهيكلة، فالمستثمرون كانوا يتوقعون أن يتمّ طرحُها كأحد الخيارات الممكنة لتصحيح مسار المديونية العامة، كما يحصل في بلدان أخرى مماثلة (أوكرانيا مثلاً). إلّا أنّ المقاربة هي ما فاجأت الأسواق في لبنان والخارج، ولا سيما أن يتمّ الحديث عن معالجات لحجم الدين في غياب أيّ غطار عمل واضح للسياسات الاقتصادية والمالية، ولا سيما خطة تصحيح مالي ذات مصداقية متوسطة الأمد بالتعاون والتنسيق مع مصرف لبنان. فالمشكلة ليست فقط في حجم الدين بل بمسبّباته خصوصاً عجوزات لبنان المالية والخارجية، وعلى أيّ معالجة الأخذ بالاعتبار حساب الأرباح والخسائر وكيفية توزيع الأعباء (burden sharing) بشكل يسمح للاقتصاد وقطاعاته المختلفة زيادة تنافسيّتها من جهة والحدّ من اتّساع الفوارق الاجتماعية من جهة أخرى».
وأشارت مبيّض الى أنّ الاستثمارات الأجنبية المباشرة في لبنان تقلّصت على مدى السنوات العشر الماضية في ظلّ حال عدم الاستقرار السياسي وغياب الإصلاحات.
وكانت التدفقات المالية في معظمها تساهم في زيادة الدين العام والدين الخارجي إذ عمد مديرو الأصول في الأسواق الناشئة على الاستثمار في السندات السيادية اللبنانية اليوروبوند نظراً إلى ثقل لبنان في مؤشر سندات الأسواق الناشئة (EMBI)، ما يبرّر زيارة ممثلي مؤسسات الاستثمار الى لبنان، لمتابعة التطورات الاقتصادية والمالية والسياسية عن كثب.
وقالت: إنّ العائد على سندات اليوروبوند اللبنانية يُعتبر مرتفعاً اليوم عند أكثر من 9٪، خصوصاً في ظلّ التوقعات بأنه سيتمّ تطبيق الإصلاحات وسيحظى لبنان بدعم المانحين. هذا ما يفسّر عودة الشهية والطلب على سندات اليوروبوند اللبنانية، وقد سمح بتبدّد المخاوف من أيّ احتمال لتخلّف لبنان عن السداد في الوقت الحالي، إلى حين اتّضاح الصورة بالنسبة للإصلاحات المالية والهيكلية المقرّر تطبيقُها في الأشهر المقبلة.
النّية الحسَنة لا تكفي!
واعتبرت مبيّض «أنّ تشكيل الحكومة لن يكون بحدّ ذاته كافياً لاستعادة ثقة المواطنين أو المستثمرين الأجانب. كما أنّ البيان الوزاري للحكومة لن يبدّد المخاوف المرتبطة بطبيعة النظام السياسي في لبنان وكيفية اتّخاذ القرارات فيه، ومدى تأثرها بمصالح اللاعبين الأساسيين وميزان القوى فيما بينهم، وخصوصاً إستئثارُهم بمقدّرات الدولة التي أدّت على مدى السنوات الماضية الى إضعاف مؤسساتها الرقابية المؤتمَنة على حسن إدارة المال العام».
وذكرت أنّ «مؤشرات الأداء الضعيفة جداً في السنوات الماضية هي ما يَنظر اليه الخارج ويقارنُه ببلدان أخرى في محيطنا أو في العالم. وجميع هذه المؤشرات للأسف ليست لصالح لبنان، وأهمها استشراءُ الفساد، ضعف آليات المحاسبة، انعدام الشفافية والمنافسة في المناقصات العمومية، وتغليب الزبائنية والمحسوبية على مبدأ الكفاءة في الخدمة العامة».
وقالت: لا يخفى على المستثمرين الأجانب وعلى اللبنانيين أيضاً، بأنّ التحدّيات كبيرة جدّاً، والنّية الحسَنة لا تكفي!
إقتراحاتُ الحلول
أما بالنسبة لاقتراحات الحلول لمعالجة وضع المالية العامة وعجز الموازنة، فاعتبرت مبيّض أنّ «التعامل مع تحدّيات المالية العامة في لبنان سيتطلّب مجموعة من الإصلاحات الهيكلية والمالية: الإصلاحات الهيكلية لتعزيز إمكانات النموّ وإحياء الاستثمار الخاص، والإصلاحات المالية للحدّ من الإنفاق العام وزيادة الإيرادات بهدف تحسين توزيع الثروة».
وشدّدت على أنّ «الأولوية تبقى لمعالجة معضلة الكهرباء والتي تسبّب بعجز في الموازنة بحدود 3,5 الى 4 بالمئة من الناتج المحلي والتي تُرهق كاهل المواطن والمؤسسات الخاصة بأعباء إضافية وتعيق نموّ وتنافسية القطاعات المنتجة. كما علينا إعادة النظر بدور القطاع العام في الاقتصاد وإعادة النظر بحجمه وكلفته، لكن في ظلّ تقوية دور الدولة الرقابي والتنظيمي الذي يمنع الاحتكارات ويشجّع التنافسية بالأسعار والجودة في تقديم الخدمات للمواطن».
وأوضحت «أنّ هذا العمل يمتدّ على سنوات وبانتظار ذلك، لا بدّ من التركيز على تحصيل حق الدولة من الذين يتهرّبون من دفع الضرائب والمعتدين على الأملاك العامة، والمتعدين على شبكات الكهرباء والماء ممّن هم قادرون على الدفع، ومراجعة الصفقات العمومية وملاحقة المخالفين من جهة، كما ووقف التوظيف العشوائي ومعالجة كلفة العطاءات الباهظة في القطاع العام والتي زادت بشكل كبير العام الماضي. بالاضافة الى ذلك، لا بدّ من العودة الى صياغة سياسة ضريبية جديدة تذهب باتّجاه تطبيق الضريبة الموحّدة على الدخل بشكل يؤمّن العدالة الضريبية».
وفيما أكدت مبيّض أنه لا يمكن تحقيق كل ذلك في العام 2019، أشارت الى أنّ «الموازنة المقبلة هي أوّلُ امتحان سينتظره المانحون والمستثمرون والمواطنون، وعلى الحكومة الجديدة تحضيرُها بشكل يبيّن أنّ الإصلاحات ستتمّ على مدى 3 أو 4 سنوات، وأن تستهدف مؤشرات للعجز قابلة للتحقيق، وليس كما فعلت في موازنة العام 2018. ومن الأهمية بمكان أن توضح ذلك عبر وضع إطارٍ ماكرواقتصادي متوسط الأمد يبيّن تأثير هذه الإصلاحات على منحى العجز والدين، لا سيما في إطار فذلكة موازنة رصينة ومُقنعة للداخل والخارج».
اضافت: فذلكة تشرح أنّ الإصلاح لا بدّ أن يكون شاملاً متعدّدَ الأوجه من ناحية تحسين الإيرادات وترشيد الإنفاق، الى إجراءات تطال إدارة دين الدولة واستثمار أصولها بشكل فعّال ومربح، بشكلٍ متوازٍ مع تطبيق القوانين والإصلاحات الهيكلية لتحسين مناخ الاستثمار الخاص ودفع عجلة النموّ.
ولفتت مبيّض الى أنّ «الحكومة لم تضع إطاراً متكاملاً للتصحيح المالي عند ذهابها الى مؤتمر «سيدر» واعتمدت على مقترحات الجهات المانحة وصندوق النقد الدولي دون أيِّ جهد محلّي وطني ما أضعف موقفها وأثار مخاوف الأسواق كما العديد من اللبنانيين من زيادة المديونية الخارجية دون خطة تصحيح مالي واضحة».
وأملت ألّا يتمّ الاستخفافُ بذلك هذه المرّة أيضاً والإسراع بإصدار موازنة تخلو من المصداقية والجدّية، «فذلك سيثير مخاوفَ اللبنانيين قبل الأسواق العالمية».