لم يعد تمويل القطاع الخاص عبر المصارف متاحاً منذ اواخر العام 2019 بعدما فقد القطاع المصرفي دوره الاساسي بسبب الازمة المالية والمصرفية. ذلك بعدما كان يتغنّى بدوره الاساسي في تحريك عجلة الاقتصاد عبر تأمين القروض على مختلف أنواعها إن كانت مدعومة او غير مدعومة لتمويل الاستثمارات في مختلف القطاعات، لدرجة بلغت قروض القطاع الخاص عشية الازمة اواخر العام 2019، حوالى 68 مليار دولار، 10.08 في المئة منها كان مصنّفاً متعثّراً، متوزعة بين قطاع التجارة والخدمات الذي استحوذ على 22 ملياراً و965 مليون دولار من اجمالي القروض، وقطاع البناء بحصة 10 مليارات و699 مليون دولار، و 8.55 مليارات دولار للصناعة، و 3 مليارات و45 مليون دولار للمؤسسات المالية، و831 مليون دولار للصناعة، فيما باقي المبلغ صبّ في خانة القروض الشخصية.
سنوات الأزمة
في العامين الاولين من الازمة، لم يكن تمويل الاقتصاد أو التسليف والاقتراض هاجساً لدى أحد من الطرفين المعنيّين ( المصارف والمستثمرين او التجار). بل كان الهمّ مسلّطاً على الودائع وعلى كيفية تسديد قروض القطاع الخاص بالعملة الاجنبية. فكانت النتيجة بعد انقضاء 4 اعوام، انعدام التمويل وبالتالي الاستثمارات الجديدة، في مقابل تسديد معظم القروض المصرفية على سعر الصرف الرسمي وباللولار، وتكبيد المصارف والمودعين خسائر اضافية لصالح المقترضين.
ولكن لم يخل المشهد من عودة بعض الاستثمارات في قطاعات معيّنة أبرزها القطاع السياحي، الصناعي، والمستحضرات الصيدلانية، في حين توسّعت استثمارات اخرى قائمة وعاد النشاط والنمو، ولو بشكل جزئي، للاقتصاد رغم غياب تام لدور المصارف في تمويله كالسابق، ورغم تحوّل الاقتصاد الى اقتصاد نقدي يعتمد فقط على التبادلات التجارية النقدية.
أسئلة
كيف استطاعت تلك الاستثمارات بالمضيّ قدماً؟ وكيف توسّعت في عدد من القطاعات من دون وجود أبرز عامل جذب لها هو قطاع مصرفي فعال يستطيع تمويلها عبر القروض والتسليفات؟ كيف نجح المستثمرون خصوصاً اللبنانيين منهم، في إنشاء مشاريع جديدة في لبنان من دون مساعدة ودعم مصرفي؟
مسؤولية البرلمان
بداية، تؤكد مصادر اقتصادية محايدة ان تأخير هيكلة المصارف جريمة يتحمل مسؤوليتها اولا المجلس النيابي الذي يهرب من مسؤولياته ملقياً بالتقصير على الحكومة. فيما هو يستقيل من دوره على الدوام منذ بدء الازمة، وفجأة ينبري للقيام بالدور عند الضرورة المصلحية لهذا وذاك مثلما حصل عندما تشكلت لجنة نيابية في 2020 خاصة بالجدل الذي كان قائماً حول حجم خسائر القطاع المالي. ومنذ ذلك الحين يمعن المجلس في التنصل من الازمة كأنها ليست من صنع هذه الاحزاب والتيارات السياسية الممثلة كلها في البرلمان. وتضيف المصادر: ان الهروب من مواجهة خسائر الودائع يؤجل قيام قطاع مصرفي قادر على مواكبة الفرص الاستثمارية الكثيرة الواعدة. ومراعاة مصالح المصارف القائمة واصحابها يسهم بشكل كبير في تأخير اقرار قانون عصري وعادل لاعادة هيكلة القطاع. علماً ان الاستمرار في وضع «مصارف الزومبي» يفيد اطرافاً قليلة لا تعبأ بالمصلحة العامة ولا بالاقتصاد الوطني وتعافيه ونموه.
%1 فقط
في هذا الاطار، أوضحت مصادر مصرفية لـ»نداء الوطن» ان التسليف غائب بشكل شبه تام من قبل المصارف للقطاع الخاص، ورغم منح بعض المصارف قروضاً لعملاء معيّنين إلا ان النسبة لا تتعدى 1% من حجم القروض التي كانت تمنحها المصارف قبل الازمة، كاشفة عن وجود اشكاليات عدّة تمنع المصارف من التسليف مجدداً حيث ان قانون النقد والتسليف لا يلحظ او يفرّق بين الاموال او الودائع الجديدة fresh والقديمة «اللولار». وبالتالي، هناك صعوبة وتخوّف كبيران لدى المصارف من منح قروض للقطاع الخاص مجدداً، لان القانون لا يحميها ولا يحفظ حقها في استردادها بالعملة الاجنبية اذ لا تزال امكانية تسديد القروض بالليرة وعلى سعر الصرف الرسمي قائمة لغاية اليوم.
لا سيولة
ثانياً، اشارت المصادر الى ان المصارف لا تتمتّع جميعها بحجم سيولة كاف يخوّلها التسليف مجدداً، علماً ان بعضها ووفقاً للوضع المالي لكلّ مصرف، عاد اليوم لمنح القروض بالشروط والضمانات نفسها التي كانت قائمة في السابق، ولكن لافراد وعملاء معيّنين (قلة قليلة جداً) يحظون بثقته الكاملة لناحية عدم تعثرهم عن السداد او لجوئهم الى التسديد عبر ايداع شيك مصرفي بقيمة القرض باللولار لدى كاتب العدل بالليرة.
فائدة 10%
وأكدت المصادر ان البنوك تلجأ اليوم الى تسليف عملائها وفقا لسجلهم الائتماني الجيّد وعدم تعثرهم او تخلفهم يوماً عن السداد، لافتة الى ان معظم التسليفات المصرفية الضئيلة جدّا، تصبّ في خانة تمويل استيراد البضائع من الخارج على ان يسدد التاجر قيمتها عند بيعها في السوق المحلية، وغيرها من القروض التي تقبل بعض المصارف منحها لشراء عقارات على سبيل المثال عبر تمويل 50 في المئة من قيمتها (أي 500 ألف دولار) على شكل قرض مصرفي شرط رهنها للمصرف، او قروض باحجام اكبر لاغراض اخرى قد تكون استثمارية وفقاً للسياسة الداخلية لكل مصرف، علماً ان الفوائد على تلك القروض تصل الى 10%.
ثالثاً، ان الرادع الآخر امام المصارف للتسليف هو افتقارها للسيولة المطلوبة لذلك بسبب حجم الودائع الضئيل بالـfresh dollar والذي لا يخوّلها على غرار مرحلة ما قبل الازمة استخدام الودائع للتسليف. وبالتالي فان المصارف التي تملك سيولة في الخارج والتي تملك ودائع كافية بالـFresh، تخاطر حالياً بتسليف عملائها الـVIP بفوائد مرتفعة تصل الى 10% بدلاً من توظيف تلك السيولة في الخارج بفوائد تبلغ 5%.
وفي الختام، أكدت المصادر المصرفية ان عودة التسليفات لا تزال خجولة ولا تشكل سوى 1 في المئة من القروض التي كانت تمنحها المصارف ما قبل الازمة، لان العامل الاساسي للاقراض هو جذب الودائع الجديدة، الامر الذي يحتاج بدوره الى استرجاع الثقة بالقطاع المصرفي من اجل حصوله!
إستثمارات موسمية
من جهته، اوضح عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال ان الاستثمارات التي شهدتها البلاد في الفترة الاخيرة، خصوصاً خلال موسم الصيف، هي عبارة عن شركات ومؤسسات قائمة عمدت الى توسيع استثماراتها عبر فتح فروع اضافية لها او علامات تجارية جديدة لها في لبنان لاستغلال موسم الصيف السياحي (القطاع السياحي تحديداً). تلك المؤسسات وسّعت وجودها في البلاد على حساب مؤسسات اخرى اضطّرت الى الاقفال بسبب عدم قدرتها على تحمّل تداعيات الازمة المالية خصوصاً في ظلّ غياب القطاع المصرفي الذي يشكل المحرّك الرئيس للاقتصاد السليم.
أموال من الخارج
وأشار رمال لـ»نداء الوطن» الى ان المؤسسات التي استطاعت القيام باستثمارات او توسيع استثماراتها القائمة اعتمدت على اموالها الخاصة للقيام بذلك، اي من الاموال التي جنتها في السابق (عندما استفادت من الكلفة التشغيلية المتدنية التي أوجدتها الازمة وانهيار سعر الصرف) او من الاموال التي تجنيها من اعمالها وفروعها خارج لبنان، وذلك على حساب مؤسسات محلية لم تتوسع بأعمالها خارج لبنان ولم تستطع مجاراة اعباء الازمة واضطرت الى الاقفال.
بالعشرات فقط
ولفت الى ان عدد المؤسسات التي وسّعت اعمالها في الآونة الاخيرة محدود جدّاً ولا يتجاوز العشرات، لكن معظمها يملك فروعاً خارج لبنان او علامات تجارية خاصة بها franchise في الخارج، خوّلتها تأمين الاموال اللازمة من الخارج لتمويل مشاريعها الجديدة في لبنان. علماً ان معظم المشاريع الجديدة خصوصاً في ما يتعلّق بالقطاع السياحي هي عبارة عن استثمارات موسمية لا تتمتع بالاستمرارية في عملها ولا يدخل انتاجها المالي في الدورة الاقتصادية، بسبب عدم مروره بالقطاع المصرفي، وبسبب توقف الاخير عن تمويل قطاعات اخرى مستخدماً الاموال الناتجة عن اعمال القطاعات السياحية التي كانت مزدهرة خلال موسم الصيف الماضي. موضحاً انه عندما يكون الاقتصاد نقدياً، فان القطاعات التي ازدهرت ونمت وأنتجت، لن تعمد الى ايداع ارباحها لدى المصارف اللبنانية بل تحتفظ بها نقداً او تقوم بايداعها خارج لبنان، «وبالتالي فان هذا المسار يؤدي الى عدم استفادة القطاعات الاقتصادية الاخرى من المواسم المزدهرة للقطاع السياحي او غيره، لان الاموال لم تدخل الى القطاع المصرفي ولم تساهم في تمويل قطاعات اخرى».
المستحضرات الصيدلانية
كذلك لفت رمال الى ان القطاعات الاخرى التي شهدت استثمارات جديدة على غرار المستحضرات الطبية، فقد استفادت من زيادة حجم صادراتها نتيجة ارتفاع قدرتها التنافسية في الخارج مع انخفاض كلفتها التشغيلية محلياً (في الفترة السابقة)، ومن ارتفاع مبيعاتها في السوق المحلي نتيجة تراجع القدرة الشرائية للمواطن اللبناني واستبداله الادوية الـbrand المستوردة بالادوية المصنعة محلياً والاقل كلفة. مما أدى الى تحقيق تلك المصانع ارباحاً استخدمتها لتمويل استثماراتها الجديدة من دون الحاجة للحصول على قروض او تمويل من قبل القطاع المصرفي كما جرت العادة سابقاً.
سيولة خاصة
رغم ذلك، شدد رمال على ان توسّع الاستثمارات من خلال الاعتماد على السيولة النقدية الخاصة بالمستثمرين وبغياب تام للقطاع المصرفي، لا يعني ان الاقتصاد بوضع سليم ولا يعني انها ساهمت في تحريك الدورة الاقتصادية. ان معظم تلك الاستثمارات خصوصاً المتعلقة بالقطاع السياحي كانت استثمارات موسمية مؤقتة وفقاً لدراسة معيّنة، هدفت فقط الى الاستفادة من ازدهار الموسم السياحي وعمدت بعد انتهاء الموسم الى اقفال فروعها الموسمية بانتظار المواسم المقبلة. وبالتالي فان عدم استمرارية تلك الاستثمارات لا يساهم في خلق نمو اقتصادي، ويؤدي الى خلق فرص عمل لفترة مؤقتة فقط بدليل ان الوظائف التي خلقتها تلك الاستثمارات عادت وتبخرت مع انتهاء الموسم!
تأثير سلبي
وأكد رمال في الختام على ان انعدام التسليف والقروض المصرفية له تأثير مباشر سلبي على الاقتصاد حيث انه «من دون مصارف لا يمكن انشاء اقتصاد مستدام»، وفي حال حصول نهضة بقطاع ما، فان ذلك لن ينعكس ايجابياً على قطاعات اقتصادية اخرى، بدليل ان ازدهار القطاع السياحي خلال موسم الصيف الماضي، لم ينعكس ازدهاراً على القطاعات الاقتصادية الاخرى باستثناء الاستهلاك الغذائي، بسبب عدم وجود قطاع مصرفي كان يشكل صلة وصل او عاملاً رئيساً في الدورة الاقتصادية من خلال تمويله للقطاعات كافة.