استندت الأسباب الموجبة لمشروع القانون (الوارد بالمرسوم رقم 9014) لوضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية، “الكابيتال كونترول”، إلى وجود ظروف مالية واقتصادية واجتماعية ذات طابع استثنائي يمر بها لبنان، وتراجع الثقة بالقطاع المصرفي محلياً ودولياً، مما استدعى إعادة تنظيم العلاقة بين المصارف وعملائها، بهدف التأثير إيجاباً في عملية التعافي المالي والاقتصادي، وحماية أموال المودعين، على أن تكون هذه الضوابط التي يتضمنها مشروع القانون المحال إلى المجلس النيابي جزءاً أساسياً من خطة تعافٍ مالية واقتصادية ومصرفية متكاملة، تضعها الحكومة وتحدد بموجبها طبيعة وحجم تلك التدابير، وفقاً لأهداف خطة التعافي. وحيث يفترض ذلك وضع شروط وحدود أو مستويات للسحوبات والتحاويل النقدية المسموح بها قانوناً، وبما ينسجم مع خطة التعافي ووضع القانون الذي يمنح شرعية استثنائية ومؤقتة للإجراءات التي ينوي اتباعها، على قاعدة توزيع الأعباء (أو الخسائر) في ما بين مصرف لبنان والمصارف العاملة والمودعين بوجه عام، ومن أجل إعادة النهوض بالقطاع المصرفي، الذي بات بأمسّ الحاجة الى إعادة هيكلته في أقرب فرصة ممكنة.
قانون متأخر
والملفت للنظر هنا، عدم وجود “خطة تعافٍ متكاملة” على هذا الصعيد، كما أن مشروع القانون هذا قد أتى متأخراً جداً، بعد أن تمت أكبر عمليات “تهريب أموال” نحو الخارج لكبار المودعين والنافذين في السلطة، منذ بداية العام 2019 ومن دون استكمال عمليات التحقيق الجنائي ذات الصلة، ووضع العراقيل أمامها من أجل عدم فضح أسماء مهربي الأموال وحجم الأموال المحولة نحو الخارج، والمقدرة بعشرات المليارات من العملات الأجنبية، مما دعا صندوق النقد الدولي إلى اشتراط وجود ضوابط استثنائية على السحوبات والتحويلات النقدية بموجب قانون ذات طابع استثنائي، من أجل تمكين الحكومة اللبنانية من الحصول على بعض المساعدات المالية والقروض المشروطة، نظراً لانعدام الثقة الدولية بإدارة السلطة في لبنان بوجه عام.
أما بالنسبة للمواد التي يتألف منها مشروع القانون المعني، فإننا نبدي ملاحظاتنا حول كل منها وفقاً للآتي:
المادة الأولى: “يهدف هذا القانون إلى وضع ضوابط استثنائية ومؤقتة على السحوبات النقدية وعمليات التحاويل إلى الخارج”، وينبغي إضافة العبارة التالية إليها: بهدف منع تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج وتدهور سعر الصرف وحماية أموال المودعين.
المادة الثانية: (الفقرة 6). منصة صيرفة: هي منصة إلكترونية لعمليات الصرافة، منشأة لدى مصرف لبنان. ويجب إضافة عبارة “ينبغي وضع تشريع نظام خاص بها مع ضرورة تحديد سعرالصرف خلال المدة الزمنية المحددة لنفاذ هذا القانون بعد تصديقه”.
كما ينبغي إعادة النظر بالفقرة 17 من المادة الثانية، المتعلقة بتحديد مفهوم “الأموال الجديدة” أو “الفريش ماني”، لتشمل جميع التدفقات بالعملات الأجنبية كافة المحولة من الخارج إلى حسابات مصرفية في لبنان، أو الإيداعات النقدية بالعملة الأجنبية التي تمت بعد 17 تشرين الأول 2019، وعدم استثناء المبالغ المحولة عملاً بأحكام قرار مصرف لبنان (رقم 13262) تاريخ (2020/8/27) التي ينبغي إعادة اعتبارها أموالاً جديدة، بعد انتهاء العمل بالقانون الحاضر.
المادة الثالثة: فيما خص تشكيل “لجنة خاصة” لغايات حسن تطبيق هذا القانون، والتي سوف تحدد آلية عملها بقرار يصدر عن مجلس الوزراء لوضع هذا القانون موضع التنفيذ، ينبغي إضافة العبارة التالية “وأن تتشكل من قاض من الدرجة 18 وما فوق، وثلاثة ممثلين من المجلس المركزي في مصرف لبنان يختارهم هذا المجلس كمنتدبين لهذه المهمة المؤقتة، بالإضافة إلى خبيرين ماليين أو اقتصاديين يختارهما مجلس الوزراء بناء لاقتراح وزير المالية، على أن تحدد آلية عمل هذه اللجنة بموجب مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء”.
المادة الرابعة: فيما خص الاستثناءات على نقل الأموال عبر الحدود ومدفوعات الحسابات الجارية والتحاويل، ينبغي إعادة النظر بالفقرة 6 من المادة الرابعة، المتعلقة بالمدفوعات الجارية لمصاريف الطلاب المسجلين في الخارج، لجهة إعادة الاعتبار للقانون المتعلق “بالدولار الطالبي” النافذ سابقاً (رقم 2020/189)، وإعادة تدقيق الفقرة 7 من المادة الرابعة المتصلة بالخدمات التأمينية، المراقبة من قبل هيئات الضمان لدى وزارة الاقتصاد، لأن رقابة تلك الهيئات ليست فاعلة. فينبغي تشديد الرقابة على تلك الخدمات التأمينية وإخضاعها لقانون تبييض الأموال والإثراء غير المشروع.
وحيث لا ملاحظات حول المادة الخامسة، ننتقل لمعاينة المادة السادسة ذات الصلة بالسحوبات النقدية وخضوعها لضوابط وقيود تحددها اللجنة الخاصة. فلقد نصت الفقرة 2 من المادة السادسة من مشروع القانون، على تحديد قيمة المبالغ المسموح للفرد بأن يسحبها شهرياً من حسابه المصرفي بما لا يزيد عن الألف دولار أميركي شهرياً، بالعملة الوطنية أو بالعملتين معاً، وذلك من دون أي تمييز بين صغار أو كبار المودعين، بما لا يتناسب مع حجم أو رقم الأعمال التجارية أو الاستهلاكية لكل منهم. فينبغي إيجاد ثلاثة مستويات للسحوبات الشهرية بما يتناسب مع حجم الإيداع بمقتضى هذا القانون، وذلك وفقاً لدراسة موضوعية وتقديرات اللجنة الخاصة والمجلس المركزي لمصرف لبنان.
المادة السابعة: المتعلقة بالتحاويل والمدفوعات المحلية واستخدام حسابات القطع. لقد حددت هذه المادة القيود المفروضة على التحاويل بالعملة الوطنية والعملة الأجنبية بين المصارف، كما واستخدام الشيكات وعمليات التحويل إلى الخارج وفقاً للمادة الرابعة من هذا القانون، كما أجازت تحويل الأموال إلى الليرة اللبنانية وإيداعها في حساب مصرفي بالليرة اللبنانية، وفقاً للشروط التي تحددها اللجنة الخاصة، كما ألزمت السحب بالعملة الأجنبية ما قبل 17 تشرين الأول للعام 2019، بما يلزم هؤلاء بتحويل عملتهم الأجنبية إلى العملة الوطنية في حال شاؤوا سحب أموالهم وفقاً للتعميم 151 الصادر عن حاكمية مصرف لبنان (أي 8000 ل. للدولار الواحد). فينبغي إعادة النظر بتعددية أسعار الصرف المعتمدة من قبل مصرف لبنان والتي أصبحت حالياً خمسة أسعار، بما يتلاءم مع التطورات الحاصلة على مستوى القيمة الشرائية للعملة الوطنية وارتفاع أسعار الدولار الأميركي تجاهها، وتحديد سعر الصرف من أجل إنجاح خطة التعافي بشكل عام.
ولا ملاحظات حول المادة الثامنة.
ولقد نصت الفقرة 7 من المادة التاسعة من هذا القانون على إمكانية فتح حساب جديد بخصوص الأموال الجديدة دون سواها. وينبغي تسهيل عمليات فتح الحسابات من الودائع القديمة من أجل تلبية حاجات المودعين القدامى، وفقاً للأصول التي ينص عليها قانون النقد والتسليف بوجه خاص، وعدم حرمان المودعين القدامى من حقوقهم المشروعة وفقاً لمقدمة الدستور وللقوانين والأنظمة النافذة.
أما بالنسبة للمادة العاشرة المتصلة بمراقبة حسن تطبيق هذا القانون، من قبل اللجنة الخاصة ولجنة الرقابة على المصارف، حيث تقوم لجنة الرقابة على المصارف برفع تقاريرها الدورية إلى اللجنة الخاصة حول نتائج مراقبتها من دون تحديد المهلة الزمنية، فإننا نقترح تحديدها شهرياً وحين تدعو الحاجة، بالإضافة إلى إبلاغ تلك التقارير أيضاً إلى هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان للاطلاع على مضمونها.
وينبغي إعادة النظر كلياً بمضمون المادة الحادية عشرة من هذا القانون، لجهة فرض الغرامات المالية والإدارية والعقوبات الجزائية التي تحتاج إلى المزيد من التدقيق. كما ينبغي اقتصار المادة الثانية عشرة على المقطع الأول منها، لجهة اتسام هذا القانون بصفة الإنتظام العام ومفاعيله القانونية، ولجهة سريان هذا القانون على جميع الإجراءات القضائية مهما كان نوعها، من دون استثناء الدعاوى المقدمة سابقاً والمقامة ضد المصارف والمؤسسات المالية أو المنبثقة عنها، مهما كانت طبيعة تلك الدعاوى، واحترام الأحكام الصادرة بصورة نهائية عن المحاكم الأجنبية والمحلية.
ثغرات عديدة
وأخيراً، وبعد الاطلاع على تفاصيل “مشروع قانون الكابيتال كونترول”، نستنتج ما يلي:
1- كان ينبغي العمل على إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإقرار قانون دمج المصارف، وإعداد خطة التعافي الاقتصادي والمالي، قبل الشروع بإحالة مشروع قانون الكابيتال كونترول على المجلس النيابي، وتوحيد سعر الصرف على منصة صيرفة لضمان مستوى أفضل من الاستقرار المالي والاقتصادي، ولجم التفلت في التقلبات الحادة على سعر الدولار الأميركي في السوق السوداء.
2- إن الاستجابة العلمية والواقعية لشروط ومتطلبات صندوق النقد الدولي، تفترض إقرار الموازنة العامة في موعدها الدستوري، الأمر الذي لم يتحقق حتى تاريخه، كما يفترض وجود حكومة مستقرة ذات صلاحيات غير منقوصة، وليس حكومة لتصريف الأعمال كما هي حال الحكومة الحاضرة.
3- إن وجود سقف مالي ضئيل للسحوبات النقدية والتحاويل بما لا يتجاوز قيمة الألف دولار أميركي شهرياً لا يساهم بصورة جدية في تنشيط الحالة الاقتصادية والاجتماعية، عدا عن عدم التمييز بين المودعين الصغار والكبار، واقتصار الاستثناءات الملحوظة على الفترة الزمنية ما بعد السابع عشر من تشرين الأول للعام 2019، بصورة غير منطقية بما يخلّ بمبدأ المساواة بين المودعين التي يفترضها قانون النقد والتسليف وقانون الموجبات والعقود.
4- لا يعقل العمل على إقرار هذا القانون قبل استكمال التحقيقات الجنائية حول عمليات تهريب الأموال نحو الخارج، والعمل على استرداد ما أمكن منها، للمساهمة في رفع قيمة الرصائد المودعة لدى مصرف لبنان، وحماية قيمة العملة الوطنية، واستقرار سعر صرف العملة الوطنية ضمن حدود معينة.
5- إن احتواء مشروع القانون الحالي على ثغراته العديدة، لن يساهم في إقناع إدارة صندوق النقد الدولي بتقديم المساعدات، ولن يساهم في رفع مستوى التعافي الاقتصادي والاجتماعي في ظل الأزمات الراهنة، وقبل وضع الخطوات الإصلاحية موضع التطبيق الفعلي من قبل الحكومة ذات الصلاحيات الكاملة، وإنجاز الاستحقاق الانتخابي لرئاسة الجمهورية من دون أي مفاجآت أو عراقيل سياسية أو أمنية، بل إن إقرار هذا القانون بصيغته الحالية سوف يؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والمالي والاجتماعي في المرحلة الراهنة، لجهة إلقاء المزيد من الأعباء على أوضاع المودعين بالنسبة لاستمرارية احتجاز ودائعهم من قبل المصارف، ومحاولة إشراكهم بصورة غير عادلة في عملية توزيع الخسائر. فينبغي تأجيل السير به إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، واستقرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية في الوطن، وبعد تخليصه من الشوائب التي تكاد تفرغه من مضمونه، وتشكيل الحكومة العتيدة.