يمكن لأيّ مواطن، وفي جولة سريعة على الأسواق اللبنانية على مستوى المحال الصغيرة والكبيرة، أن يلاحظ جنون الأسعار بكلّ ما للكلمة من معنى. فالزيادات “فاضحة”، وحجج الغلاء جاهزة منها: إرتفاع الجمرك، إرتفاع كلفة الإنتاج، الوضع الأمني في البحر الأحمر والجنوب، وفلسطين!
وفي وقت لا يمكن إنكار أنّ هذه العوامل تتسبّب فعلا في ارتفاع الأسعار، لكن ليس بهذا الجنون، بخاصة في ظلّ استقرار الدولار اليوم. علاوة على ذلك، هناك عامل الإحتكار، الميزة السوداء في الإقتصاد اللبناني للأسف، فالتجار الكبار هم أصل أزمة الغلاء إن صح التعبير، لكن هذا لا ينفي أن الطمع يطال التجار الصغار كذلك، وأيضا أصحاب المحال الصغيرة والكبيرة، وهذا ما يظهره تفاوت الأسعار وكذلك الزيادات بين الجميع، مما يطرح علامات إستفهام حول من يفترض أن يضبط كرة الأسعار المتدحرجة تضخّما؟
بخصوص نسبة الإرتفاع في الأسعار، أعلنت إدارة الاحصاء المركزي في رئاسة مجلس الوزراء في بيان، أن “مؤشر اسعار الاستهلاك في لبنان لشهر أيار 2024 سجل ارتفاعا وقدره 0,02 % بالنسبة لشهر نيسان 2024، مع العلم ان التغير السنوي لمؤشر اسعار الاستهلاك عن أيار 2024 بلغ 51,59 %، بالنسبة لشهر أيار من العام 2023″.
نائبة رئيس “جمعية المستهلك” الدكتورة ندى نعمة أشارت لـ”الديار” إلى أنّه “لم يكن يوما إرتفاع الأسعار أو تغيّرها في لبنان مبنيا على قواعد علمية أو أساسيّة، لأنّ اقتصادنا بالأصل إحتكاري، ووليد الفوضى التي نعيشها”، لافتة إلى “أنّنا لم نشهد طيلة هذه الفترة إنخفاضا في الأسعار، رغم أنّ مواد أساسية كثيرة انخفض سعرها عالميا، كما تفاوت سعر النفط ارتفاعا وانخفاضا في أحيان كثيرة، لكن في المقابل لم تتأثّر الأسعار نزولا أبدا بل صعودا دائما”، مبدية عدم استغرابها للأرقام المرتفعة اليوم.
تشريع الفوضى
لم يشكّل قرار وزير الإقتصاد والتجارة أمين سلام بـ”دولرة” أسعار السلع والخدمات في العام 2023، حماية للناس، بل كان خدمة “العمر” للتجّار، خصوصا في ظلّ جنون الدولار حينها، لكن عندما استقر، عمد بعض أصحاب المصالح إلى التلاعب بتسعيرة الدولار، فيما ذهب بعضهم الآخر إلى نزع التسعيرة كليا بهدف زيادة أرباحهم، وهذا كان عاملا أساسيا في غليان الأسعار.
وفي السياق، أكّدت نعمة على دور حالة “الدولرة” وتفاوت الأسعار في ذلك، بحيث “أنّ هناك تسعيرتين واحدة بالدولار وأخرى بالليرة اللبنانية، فضلا عن غياب الرقابة بدعوة عدم وجود موظفين وعديد كاف، علما أنّ آليات المراقبة بسيطة”، مشيرة إلى “أنّ تشريع الفوضى أدّى إلى هذا الأمر، ولم يعد هناك إمكانية لضبط الأسعار، و”صاروا التجار يشتغلوا على ذوقهم”، وهذا يؤدّي حتما لتفاوت كبير جدًا بين محل وآخر”.
وجزمت نعمة “أنّ الوضع لن يتحسن إلا بوجود دولة ونظام وتطبيق قوانين ومحاسبة، فالتاجر الذي يغش يجب أن يحاسب ويسجن”، واضعة هذه الإجراءات في إطار علاقة متكاملة بين جميع المعنيين، وقالت “لحماية الناس لا بدّ من تطبيق كلّ القوانين ومحاسبة المخالفين، وتدخّل قضاء الدولة بكلّ المراحل، وإذا لم تتوفر هذه العناصر لن يكون هناك حماية للمستهلكين”.
من يحمي المستهلك؟
“على ما يبدو سيحمي المستهلك نفسه بنفسه”، برأي نعمة التي دعته “ليكون واعيا جدا خصوصا خلال هذه الفترة”، وأكّدت على دوره “بأنّ يفتش عن السعر الأفضل، فالخيارات كثيرة في الأسواق، وأن يقصد أسواق الجملة”، لافتة إلى “زيادة وعي الناس بهذا الإطار، لأنّ الدولة لا تقوم بأي شي، ولأنّ المعنيين يتفرّجون والناس “غاطسة” بهمومها ومن مشكلة لمشكلة ومن عبء الى عبء، فليس هناك حماية للمستهلك في لبنان لا سابقا ولا حاليا”، ودعت المواطنين “إلى تقديم شكاوى في الوزارة وجمعية حماية المستهلك، فهذا حق من حقوقهم ويمكّننا من مساعدتهم، فضغط الناس مهم جدا بهذه المرحلة، لكن في المقابل هناك من يشتري مهما ارتفعت الأسعار ولا يستنكر”.
المقاطعة سلاح
وتطرّقت نعمة إلى أهمية المقاطعة، بخاصة “لكلّ محل تجاري يبيع بأسعار أعلى من غيره، ولا يتجاوب مع إعتراض المستهلكين، فالمقاطعة سلاح فعّال بأيدي المستهلكين، يمكن استعماله للضغط على التّجار لخفض الأسعار، ولكن للأسف لا يستعمله المستهلكون “، وأضافت “أنّنا كجمعية نقوم بتوعية الناس قدر الإمكان من خلال مقابلات وحملات وندوات”.
وختمت بأنّ “حماية المحتكرين هي جزء من معركة المستهلك، فالإحتكارات محمية بهذا البلد، وكسر الإحتكارات وتشجيع التنافس وحده كفيل بأن يخفض الأسعار ، وطالما أنّ هؤلاء التجار المحتكرين محميون، و”ما حدا عم بقرّب عليهم ولا يحاسبهم، أكيد رح تضل الأسعار بهذه الطريقة من الفلتان والفوضى”.
خلاصة القول.. في وقت أمني حسّاس ومعيشي ضاغط، يواجه المستهلك اللبناني بمفرده جنون أسعار السلع والخدمات، في ظلّ صمت تامّ لوزارة الإقتصاد والتجارة عمّا يجري، وفي ظلّ غياب الحملات القامعة لغليان الأسعار من قبلها، ليصبح قرارها بـ”دولرة” الأسعار سيفا مسلطا على رقبة المستهلك ، رغم إقراره لحمايته، لكنّه لم يزد وضعه إلّا سوءا!