بصرف النظر عن موقف القوى السياسية من صندوق النقد الدولي وآليات عمله، برز انطباع أوّلي لدى وفد الصندوق المستمرّ في تقويمه، يُختصر بعدم وجود رؤية لبنانية موحّدة حيال ما يريده لبنان رسمياً من الصندوق. وفي التقويم أيضاً أن القوى السياسية لا تملك كما السلطة توصيفاً موحّداً وحقيقياً للوضع، وأن لا تماسك لبنانياً على مستوى المسؤولين الذين التقاهم الوفد، في شرح الواقع المالي والاقتصادي والاجتماعي، وأن لكل جهة سياسية أو اقتصادية وجهة نظر وانطباعات مختلفة، وقد تكون أحياناً متناقضة.
تبدو المواقف اللبنانية مفاجئة لصندوق النقد الدولي والمعتاد على زيارة بيروت دورياً من دون «حفاوة» إعلاميّة كما يحصل اليوم، كون لبنان في خضم أزمة نقدية، وعلى أبواب استحقاق جوهري يتعلّق بتسديد سندات اليوروبوند، ويفترض أن يكون على أهبة الاستعداد لتقديم تصوّر واضح وموحّد حيال ما يريده تحديداً وما ينتظره، ولا سيما أنه يدخل شهره الخامس من الاحتجاجات الشعبية، وما أفرزته من اعتراضات على أداء السلطة السياسية وآليات الفساد والسياسات المصرفية.
وما رشح من تقويم وفد الصندوق بعد استماعه الى شريحة واسعة ومنوّعة من المسؤولين، أن الأمر الوحيد الذي يريده لبنان ولو في صورة غير معلنة ورسمية، الحصول الفوري على دفعات أموال لمساندته للإعلان عن إنجاز سريع ومفاجئ يعيد ثقة اللبنانيين بسلطتهم، ولكن مع توقعات كبيرة لا تتلاءم مع آليات عمل الصندوق. ولعل ذلك كل مغزى التعويل اللبناني على احتمال القفز فوق اعتبارات الصندوق أو «شروطه»، والرهان على تدخّل دول صديقة لمساعدته في ذلك، من دون التوقف في المقابل عند اعتبارات ومواقف الدول المشاركة الأساسية فيه، كالولايات المتحدة تحديداً. الوفد سجّل مفارقات كثيرة وانطباعات، برزت منها أسئلة طرحتها شخصيات سياسية واقتصادية،
في موازاة الكلام عن الأوضاع الاجتماعية والحياتية للبنانيين عن كيفية «تقاسم كلفة الخسائر التي حصلت ومن يتحمّلها». أحد السياسيين من خارج السلطة وعلى اطّلاع على محادثات الصندوق، يرى أن السؤال الأساسي الذي يفترض أن يطرح هو «كيف تمّت عملية تقاسم الأرباح التي تحقّقت حتى الآن؟». وهو سؤال لم يجد عليه اللبنانيّون بعد أيّ جواب، رغم الفضائح التي تكشف يومياً.
لا يشكل موقف لبنان الرسمي عنصراً مفاجئاً بالنسبة الى الداخل اللبناني، لأن السياسة العامة التي برزت منذ 17 تشرين، وصولاً الى اليوم، لا تزال سياسة الهروب إلى الأمام ودفن الرأس في الرمال. يذكّر أحد السياسيين بأن لبنان تلقّى نصائح قبل استحقاق تسديد ديون خارجية في شهر تشرين الثاني الماضي، بعدم دفع السندات حينها والبالغة قيمتها 1.58 مليار دولار، ويتردد أن النصائح سبقت هذا الموعد بشهور طويلة، ولم يكن لبنان قد دخل في شكل علني في أزمته المالية الخانقة. لكن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، رفَض، كحاله اليوم، عدم تسديد الدفعات، مع الفارق أنه حصل حينها على تغطية سياسية كاملة من القوى السياسية والرسمية كافّةً على أعلى المستويات لتسديد السندات. وما يجري حالياً، كان يفترض أن يحصل قبل أربعة أشهر ، فيساهم في تخفيف الأعباء المالية والانهيار النقدي والاجتماعي، بدل مضاعفته إلى الحدّ الذي بات معه مئات آلاف اللبنانيين مهدّدين بلقمة عيشهم.
السؤال الذي يُفترض أن يُطرح: كيف تمّ تقاسم الأرباح التي تحقّقت؟
قبل أن يكتب الوفد تقريره النهائي، ويرسم خريطة الطريق، لا يزال لبنان غارقاً في تجاذب سياسي حول توقّعاته من الصندوق، وسط تباينات حادّة حول إمكان الالتزام بما يقرره الصندوق، تماماً كما غرقه في رؤيته لكيفية الخروج من الأزمة السياسية والاجتماعية الداخلية بشكل عام، لأن هناك انطباعاً حتى لدى من هم في قلب السلطة بأن الجميع يتصرّفون «كل يوم بيومه». فهكذا عولجت التظاهرات، وهكذا عولجت استقالة الرئيس سعد الحريري وتأليف حكومة الرئيس حسان دياب، والأزمة المصرفية، وصولاً الى أزمة كورونا الصحية. ويقول أحد السياسيين الفاعلين «لا أحد من القوى السياسية كافّةً يملك حتى الآن تصوّراً واضحاً حيال مستقبل الوضع الداخلي، ولا أحد يملك خريطة طريق لما سيحدث اليوم وغداً لا في السياسة ولا في الاقتصاد». هذا تماماً ما خلص إليه وفد صندوق النقد، وهذه هي النقطة الوحيدة التي يلتقي فيها مع المسؤولين اللبنانيين.