على الرغم من تأكيد وزارة الاقتصاد أكثر من مرة، أن مادة الطحين متوفّرة بكميات توازي حاجة لبنان للاستهلاك، وإصرارها بأن لا أزمة بتوفر الخبز، لا تزال الأفران تشهد طوابير من طالبي الخبز، من دون تمكّنها من تأمين السلعة للجميع، حتى أن الغالبية الساحقة من الأفران تعمد إلى بيع ربطة خبز واحدة لكل زبون، في محاولة لتقنين البيع وتوفير الخبز لأكبر عدد ممكن من الزبائن. كما لم يغب عن مشهد الأزمة الباعة المتجولين للخبز بأسعار مضاعفة. وقد اتسعت رقعة السوق السوداء للخبز ليتجاوز نطاقها المناطق النائية في البقاع والشمال والجنوب وتصل إلى بيروت الإدارية، حيث يتجاوز سعر ربطة الخبز في بعض أحيائها 25 ألف ليرة.
هذا الواقع لا ينم فقط عن نقص بمادة الطحين وعدم توفر الأموال اللازمة لاستيراد القمح، إنما أيضاً عن فساد مستشر في كافة المؤسسات المرتبطة بملف الخبز من وزارة الاقتصاد إلى مصرف لبنان ومستوردي القمح والمطاحن والأفران. وليس كلام الوزير السابق النائب وائل ابو فاعور عن عصابات منظمة تسرق الطحين ناتجاً عن تكهّنات، إنما من وقائع ومعطيات حقيقية متوفرة لدى الأجهزة الامنية، حسب تأكيد أبو فاعور.
كلام أبو فاعور فتح الباب أمام بعض المتضررين من “عصابات سرقة الطحين”، الذين بادروا إلى فضح ممارسات غير سليمة تنطلق من مكاتب بعض موظفي وزارة الاقتصاد، وتمر عبر مطاحن استُحدثت بهدف الحصول على الطحين المدعوم والإتجار به، بعلم وتغطية من بعض موظفي الوزارة.
بين الأفران والمطاحن
تُصدر مديرية الحبوب والشمندر السكري أذونات للأفران تخوّلهم الحصول على كميات محدّدة من الطحين المدعوم من المطاحن، من دون أن تكون تلك الكميات متوفرة، يقول أحد أصحاب الأفران في حديث لـ”المدن”: “فالأذون التي نحصل عليها لا إمكانية لدى المطاحن على ترجمتها وتنفيذها. وهذه مسؤولية وزارة الاقتصاد”. من هنا وصف أصحاب الأفران تلك الأذونات بـ”الشيكات بلا رصيد”.
توصيف الأفران للأذونات بأنها شيك بلا رصيد، أكده أحد أصحاب المطاحن الحانق على وزارة الاقتصاد ومديرية الحبوب والشمندر وعلى زملاء له في الوقت عينه، يتناهشون كميات الطحين المدعوم من دون وجه حق، ولا يسلّمونه للأفران.
فبعض المطاحن تم ترخيصها مؤخراً، وحصلت على حصص كبيرة جداً من القمح، وليس لديها مؤهلات للعمل والطَحن. هذه المعطيات والشكاوى لدى بعض المطاحن تلتقي مع حديث أبو فاعور عن وجود “عصابة مُتحكمة بمسألة استلام الطحين وتوزيعه. وهي التي تؤدي إلى الأزمة التي وصلنا إليها عبر الفساد والسرقة والاحتكار والتهريب”، من دون أن يبرئ وزارة الاقتصاد ومديرية الحبوب والمطاحن والأفران من المسؤولية.
ألا تستحق كل تلك الشكاوى والإخبارات من وزارة الاقتصاد فتح ملف القمح، وفضح أسماء المتورطين في فساده؟
لا طحين مدعوماً بالسوق
اليوم بعد تشعب أزمة القمح، ورغم تعدد المتورطين بفساد ملف الخبز، أقله بشهادة أبو فاعور وأصحاب مطاحن وأفران، تواجه وزارة الاقتصاد تحديات كبيرة لتأمين القمح في الأيام القليلة المقبلة، عشية عيد الاضحى. فوزير الاقتصاد كان قد طلب من المستوردين الاستمرار باستيراد القمح، متعهداً بتأمين الأموال اللازمة له، على الرغم من أن الأموال المخصصة للخبز والموعودة من البنك الدولي (150 مليون دولار) لم تصل بعد ولم يتم قوننتها.
وعليه، فلا أموال اليوم لاستيراد القمح. أما فيما خص الكميات المتوافرة لإنتاج الخبز الأبيض، فتكاد تكون معدومة، حسب تأكيد أحد أركان مستوردي القمح، الذي يؤكد في حديث إلى “المدن” بأن السوق اليوم في حال شح كبير، وهو لا يكفي قطعاً لاستهلاك الأسبوع الحالي.
وفي حال قام مصرف لبنان اليوم بفتح اعتمادات جديدة لاستيراد القمح -وهو أمر مستبعد- فالعملية تستلزم نحو 15 يوماً، ما يعني أن النتيجة واحدة: لا قمح في السوق حالياً، باستثناء الأمل الوحيد بتمرير الباخرتين الموجودتين في المياه اللبنانية، ويبلغ مجموع حمولتهما من القمح نحو 7 آلاف طن فقط، في حين أن الاستهلاك اليومي يبلغ نحو 1500 طن. وهو ما يغطي حاجة الاستهلاك لأيام حتى عيد الأضحى كأبعد تقدير. هذا في حال تم تحويل الأموال اللازمة والانتهاء من إخضاعها للتحاليل المخبرية. ومن دون ذلك، فلا خبز قبل العيد.
أما في حال تم تسيير الشحنتين المذكورتين على وجه السرعة، وتأمين القمح حتى عيد الأضحى، فإن الأزمة عينها ستقع بعد العيد. إذ لا شحنات قمح قريبة من دون فتح اعتمادات، وحل أزمة توزيع الطحين على الأفران، وضبط الفوضى الحاصلة في عمليات توزيع القمح والطحين على السواء.