لا كهرباء لا نمو

عجزنا في لبنان حتى اليوم عن تأمين كهرباء بعد عقود من التجارب السيئة والمكلفة. لبنان اليوم من الدول القليلة عالميا التي ليس عندها كهرباء وهذه نقطة سوداء لمجتمعنا ومستقبل اقتصادنا. لا شك أن الذين استلموا هذا الملف في السلطات التنفيذية والتشريعية والادارية منذ الطائف مسؤولون مباشرة، لكن هذه المسؤولية ربما لا تقتصر عليهم وحدهم. لن ندخل بالشجار على «من سمح» ومن «لم يسمح» بانجاز هذه الخدمة الضرورية، الا أنه لا بد للذين اداروا هذا الملف من أن يعلنوا فشلهم ويعتذروا. لماذا ليس عندنا كهرباء؟ لماذا أصبحنا من الدول القليلة التي لم تؤمن هذه الخدمة بالحد الأدنى؟

أولا: لا شك أن الفساد السياسي الاداري المستشري مسؤول الى حد كبير عن هذا التقصير الفاضح في القيام بالمسؤوليات المباشرة. فالفساد لا يقتصر على سرقة الأموال ومن سرقها بل يصل الى كافة أنواع التقصير التي حصلت وتحصل على كافة المستويات ومنذ زمن بعيد.

ثانيا: سوء الادارة من ناحية عدم ابقاء معامل الانتاج تعمل مهما كانت التحديات والعوائق. هنالك ضرورة لمعالجة المشاكل قبل حصولها وليس الانتظار الى أن يتعطل الانتاج قبل المباشرة بالتصحيح. هنالك تقصير في معالجة مواضيع نقل الكهرباء أي تصليح الخطوط وتحديثها واستبدال المعطل منها بأخرى جديدة وبسرعة. هنالك تقصير في التوزيع وفي تحصيل التعريفات المنخفضة بالاضافة الى مجموع التكلفة الباهظة للقطاع بكل المعايير الدولية.

ثالثا: هنالك اصلاحات قانونية ومؤسساتية لم تقر علما أن الموضوع مطروح منذ عقود على الاختصاصيين وعلى الرأي العام، من لا مركزية انتاج الى خصخصة ادارية أو خصخصة نهائية تنقل الخدمة أو أجزاء منها الى القطاع الخاص. كثر الكلام وتعثرت الحلول وكانت الخلافات تحصل لألف سبب وسبب باستثناء المنطق العلمي الهادف الى تحقيق المشاريع وايصال الكهرباء.

رابعا: هنالك حتما من يستفيد ماديا ونفوذا من الأوضاع الحالية وليس له مصلحة في تحسين الخدمة. ليس المقصود فقط أصحاب المولدات الخاصة الذين يربحون ويستفيدون من نقص الكهرباء العامة، بل هنالك أيضا من وراءهم من سياسيين وأصحاب نفوذ ورؤوس أموال والذين لا مصلحة لهم بتسهيل الحلول. هذه المصالح السياسية الادارية المالية عطلت الكهرباء وأبقت المواطن في الوضع الحالي السيىء بغياب دولة القانون وهيبتها.

خامسا: التعريفات المتبعة التي تدعو الى السخرية والى التبذير في الاستهلاك، تمنع عمليا ايصال الكهرباء الى المواطن. مع التعريفات الحالية لا يمكن تأمين وصول الكهرباء والقيام بالاصلاحات الدورية لكافة أجزاء الخدمة من انتاج ونقل وتوزيع. مع التعريفات الحالية من المستحيل أن تحقق شركة الكهرباء التوازن المالي الضروري للاستمرار. هل نرفع التعريفات قبل تحسين الخدمة أو نحسنها وثم نرفع التعريفات؟ هذا نقاش لا يصل الى نتيجة اذ يجب رفع التعرفة جزئيا وتمويل بعض الاصلاحات الضرورية وبالتالي تحسين الخدمة جزئيا مما يخفف ثقل فاتورة المولدات الخاصة. حوار الطرشان المقصود أو البريء في هذا الموضوع يؤخر بالتأكيد الحلول.

لبنان ليس الدولة الوحيدة التي عانت أو تعاني من نقص في الانتاج الكهربائي مقارنة بالطلب. مرت مناطق ودول أخرى بتجارب مماثلة لكنها أوجدت الحلول. بين الدول الصناعية، عانت الولايات المتحدة وأقصد هنا ضمنها ولاية كاليفورنيا من مشكلة كهربائية جدية نتيجة ارتفاع الطلب فوق الامكانات الانتاجية. رفض السياسيون رفع التعرفة تماما كما يحصل في لبنان. طلب من المستهلكين ترشيد الاستهلاك دون اعطائهم حوافز، وبالتالي لم ينفذوا المطلوب والمنطقي. لم تحل المشكلة الا بعد زيادة الانتاج ورفع التعريفات.
في دولة النيبال وبين سنتي 2006 و 2017، حصلت مشكلة كهربائية جدية. كانت ادارة الخدمة سيئة والتعريفات منخفضة فتحققت خسائر مادية كبيرة. كانت الكهرباء تنقطع لساعات طويلة خلال الـ 24 ساعة، تماما كما يحصل منذ زمن في لبنان. قدرت خسائر الدولة ب 11 مليار دولار من ناتجها خلال 9 سنوات أو 6% من الناتج سنويا. لو لم تكن هنالك مشكلة كهربائية لإرتفعت الاستثمارات السنوية 48% تبعا لتقديرات البنك الدولي. كما أن الصادرات تدنت سنويا 2,8% وكذلك الواردات 5,4% نتيجة ضعف الناتج وبالتالي أحوال المواطنين. لأن مسؤولية المشرفين على القطاع كانت بالمستوى المطلوب، حصل تغيير مقبول في التعريفات حقق التوازن بين العرض والطلب وسمح للدولة بتحسين نوعية العرض وتخفيف وطأة الأزمة على المواطن. تبين للمسؤولين قبل ذلك أن المواطنين مستعدون لدفع تعريفات أعلى مقابل تحسين الخدمة وهذا هو الحال مع اللبنانيين. المشكلة عندنا هو غياب الثقة، اذ يخاف المواطن من أن ترفع التعريفات ولا تتحسن الخدمة وهذه مشكلة كبيرة. لذا يجب أن نعطي بعض الثقة للمؤسسات والمسؤولين ونقرر العقاب اذا لم يؤدوا واجبهم الواضح. هذا دور كل الانتخابات!

قامت النيبال بتحسين اداء الادارات المسؤولة عن الكهرباء ورفع فعاليتها. تم استعمال الطاقات الموجودة من بشرية ومادية ومؤسساتية بذكاء ونجحت. لذا انخفضت تكلفة الخدمة فارتفع الانتاج حتى مع الامكانات المتوافرة وتحسن النقل وتم تحسين الجباية كلها في أوقات قصيرة مع تعاون المواطنين والشركات والمؤسسات. خف انقطاع التيار الكهربائي الى حدود مدهشة نتيجة الجدية في اتخاذ القرارات وتنفيذها. لا بد من القول أيضا أن النيبال وغيرها من الدول النامية نوعت انتاجها الكهربائي معتمدة على الطاقات البديلة أي المائية والشمسية والهوائية والحرارية. أما تخزين الطاقة عبر البطاريات، فهو جيد لكنه ليس كافيا للمدن الكبيرة.

أما الطاقة الشمسية والهوائية فتحتاج الى مساحات أرض كبيرة يمكن أن لا تتوافر في الدول أو المناطق الصغيرة، وهنالك من يخاف في تأثيراتها السلبية على البيئة. طبعا الطاقة النووية مهمة جدا ولا تؤثر سلبا على البيئة، لكنها ذات مخاطر عالية ومكلفة جدا في استثماراتها وبالتالي فوق امكانات معظم الدول النامية والناشئة. لأن هنالك حدوداً لمدى استعمال الشمس والهواء والمياه لانتاج الطاقة، هنالك معدلات عالمية لدورها بحدود 1,5% من المجموع. لذا ستتوجه الدول القادرة تدريجيا الى النووي خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي فضحت اتكال العالم المستمر على الطاقات التقليدية من فحم ونفط وغاز.

هنالك دول نامية وناشئة عدة استثمرت بذكاء في طاقاتها الكهربائية، وها هي تصدر بعض هذه الطاقات الى دول مجاورة فتبقيها تعمل كما تحصل ايرادات تسمح لها بتجديد معاملها ومعداتها لتحافظ على أوضاعها الكهربائية. فهل يمكن للبنان أن ينجح حيث نجحت النيبال؟ أم نبقى غارقين في مشاكلنا المتجددة والمرهقة؟

مصدراللواء - الدكتور لويس حبيقة
المادة السابقةبوشكيان: الحظر على تصدير الطحين المدعوم ما زال قائما
المقالة القادمةملف رفع بدل النقل قد يُبتّ اليوم؟